الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات , أحمده جل و علا و أشكره , و أثني عليه و أستغفره، و أسأله المزيد من فضله و رحمته إنه جواد كريم و أصلي و أسلم على المبعوث رحمة للعالمين و على آله و صحبه أجمعين , أما بعد:
ففي هذه الخاتمة أحب أن أقف مع القارئ الكريم على أهم ما توصلت إليه خلال هذا البحث من فوائد و نتائج كانت حصيلة لمسائل كثيرة. فمن ذلك:
1- أن القبر و دفن الإنسان بعد موته سنة جارية في الخليقة منذ أول ميت على وجه الأرض و هو مما أكرم الله عز و جل به بني آدم.
2- أن إعداد القبر قبل الموت بشرائه جائز , أما حفره قبل الموت لشخص معين فإن كان في مقبرة مسبلة فهو حرام , و إن كان في ملكه فهو مكروه غير مستحب.
3- اتفاق الفقهاء على جواز اللحد و الشق في القبر و إن كان اللحد أفضل و أما الشق فالراجح أنه الأفضل عند الحاجة إليه.
4- أن إعماق القبر مستحب، ليس له حد على الراجح، و المعتدل فيه إلى حد الصدر تقريبا و مما يستحب أيضا توسيع القبر و تحسينه.
5- اتفاق الفقهاء على جواز إلقاء الميت في البحر إذا تعذر الوصول به إلى الساحل و الراجح تثقيله ليرسب في البحر كما اتفقوا على كراهة التابوت و استثنى بعضهم حالة الحاجة.
6- جواز الدفن في قبر الميت إذا بلي و صار ترابا و عدم الجواز إذا لم يبل أو كان فيه عظام من الميت الأول إلا أن يكون شيئا يسيرا على الصحيح.
7- الراجح جواز أخذ الأجرة على حفر القبور كما يجوز أخذ الرزق على ذلك من بيت المال.
8- أن الأحق بدفن الرجل الرجال من الأولياء و كذا المرأة و الراجح أن أولى الناس بالمرأة زوجها و أن الرجال الأجانب أولى من النساء في دفن المرأة و أنه ليس لمن يدخل القبر حد من شفع أو وتر.
9- جواز الدفن في كل الأوقات إلا الأوقات المكروهة فلا يجوز للمتحري لها و جواز الدفن بالليل إن كان لا يفوت بذلك حق للميت.
10- أن إدخال الخشب في القبر مكروه إلا لحاجة و كذا إدخال القبر شيئا مسته النار و كذا يكره فرش القبر أو وضع مخدة تحت رأس الميت أو نحو ذلك.
11- أن الأمر في طريقة إدخال الميت القبر واسع و الأفضل هو الأسهل أما توجيه الميت إلى القبلة في القبر فهو واجب وذلك على الراجح و أما وضع الميت على جنبه الأيمن في القبر فهو مسنون بالاتفاق.
12- استحب أكثر الفقهاء إسناد الميت في قبره و وضع شيء تحت رأسه و حل عقد كفنه و نصب اللبن على لحده و الدعاء له في تلك الحال.
13- اتفاق الفقهاء على استحباب ستر قبر المرأة عند إنزالها القبر و اختلفوا في الرجل و الراجح كراهة ذلك له أما حثو التراب في القبر فالراجح استحبابه وعدم استحباب ذكر معه.
14- استحباب رفع القبر قدر شبر أو نحوه و عدم الزيادة على تراب القبر الخارج منه و على ذلك اتفاق الفقهاء و اختلفوا في التسنيم و التسطيح أيهما أفضل و الراجح أفضلية التسنيم للقبر.
15- أن رش القبر بعد الفراغ من الدفن و وضع الحصباء عليه مستحب على الراجح أما وضع الجريد و الورود على القبر فغير مشروع و كذا الكتابة على القبر و تجصيصه و البناء عليه و نحو ذلك كله حرام لا يجوز على الصحيح.
16- اتفق الفقهاء على أفضلية الدفن في المقبرة و اختلفوا في حكم الدفن في الدور و نحوها و الراجح أنه مكروه كما ذكر الفقهاء أن الأفضل أن يختار لدفن الميت أفضل مقبرة في البلد, أما دفن الميت في المساجد و نحوها كالمدارس فهو حرام لأن في ذلك تعظيما للميت المدفون.
17- أن السنة في الشهيد أن يدفن في مصرعه و لا ينقل إلى مكان آخر.
18- الراجح أن إفراد كل ميت في قبر مستحب في حال عدم الضرورة أما الضرورة فيجوز الجمع بين أكثر من ميت في القبر بالاتفاق.
19- لا يجوز أن يدفن المسلم بين ظهراني الكفار أو مقابرهم إلا أن يتعذر نقله فيدفن في بلادهم لكن في غير مقابرهم أما الكافرة الحامل من رجل مسلم فالراجح أنها تدفن منفردة و كذا الحكم فيما اختلط موتى المسلمين بالكفار.
20- اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز أن يدفن كافر في مقابر المسلمين , ولو مات ذمي بين ظهراني المسلمين يدفنونه وفاء بذمته لكن لا يراعى فيه هدي المسلمين و سنتهم و هذا هو حكم الحربي و المرتد على الصحيح أما من جهل حاله فلم يعرف هل هو مسلم أو كافر فالنظر و الاعتبار في ذلك للدار التي هو فيها و العلامات و على ذلك الاتفاق.
21- أنه يجب دفن أجزاء الميت أو أطرافه إذا وجدت كما ينبغي دفن ما ينفصل من الحي و اتفقوا على وجوب دفن السقط إذا تبين فيه خلق الآدمي.
22- إذا أوصى الميت بالدفن في مقبرة معينة من البلد فيعمل بوصيته ما لم يكن فيها ضرر أو محذور شرعي أما إن كانت الوصية تستوجب نقل الميت من بلد الوفاة إلى بلد آخر فللعلماء في ذلك خلاف الراجح فيه أن ذلك يختلف بحسب الأحوال و الأماكن.
23- أن زيارة المقابر للرجال مستحب و ذهب إلى ذلك جماهير العلماء كما يستحب السلام على أهل المقابر و الدعاء لهم عند الزيارة أو المرور بهم و على هذا اتفق الفقهاء و الصواب أن يكون الزائر قائما مستقبل أهل المقبرة حال السلام عليهم.
24- أن زيارة النساء للمقبرة محرمة تحريما مطلقا على الراجح من أقوال العلماء.
25- أن السفر لأجل زيارة القبور محرم بل هو من البدع المحدثة في دين الإسلام و هذا هو الراجح.
26- يستحب الإكثار من زيارة القبور من غير حد و من غير وقت معين و الصواب أنه ليس هناك وقت فاضل تستحب فيه الزيارة.
27- أن زيارة مقابر الكفار جائزة لأجل الذكرى و الاعتبار بحالهم و هذا قول جمهور العلماء و لا يجوز زيارة مقابرهم لغير ذلك أما زيارة الكافر قبر قريبه المسلم فتجوز لعدم المحظور.
28- أن أكثر القبور و المشاهد الموجودة الآن و التي تزار و يقال إنها قبور لبعض الأنبياء أو الصحابة مكذوب مختلق أو مضطرب فيه و ليست معرفة القبور بأعيانها من الدين الذي تكفل الله بحفظه.
29- إن الصلاة عند القبور محرمة غير صحيحة على القول الراجح و القبر الواحد و القبور الكثيرة سواء في هذا الحكم و كذا حكم المسجد الذي بين القبور لا تصح الصلاة فيه إلا إذا أزيلت المقبرة بما يغير اسمها و إذا قصد المصلي بالصلاة عند القبر أو القبور التبرك بتلك البقعة فقد حاد الله و خالف دينه و شرعه.
30- إن الصلاة على الجنازة في المقبرة جائزة على الصحيح من أقوال العلماء ما لم يكن في ذلك ذريعة إلى تعظيم القبور.
31- عامة الفقهاء على أن الميت يصلى عليه في قبره إذا دفن من غير صلاة و الراجح جواز الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت بل ذلك له مستحب و ليس لذلك وقت معين لا تصح الصلاة بعده بل من كان من أهل الخطاب يوم وفاة الميت جاز له الصلاة على قبره.
32- أن الأذان عند القبر وقت إنزال الميت ليس مشروعا بل هو من البدع المنكرة.
33- مشروعية الدعاء للميت و الاستغفار له بعد دفنه كما يشرع الدعاء له عند زيارة قبره و الأفضل أن يكون مستقبل القبلة حال الدعاء أما دعاء الإنسان لنفسه عند القبر فمنهي عنه إذا تحرى ذلك و كذا ينهى عن دعاء أصحاب القبور بل ذلك شرك بالله تعالى.
34- أن قراءة القرآن عند القبر أو سور و آيات منه بدعة محدثة في الدين و من ذهب إلى جواز ذلك لم يأت بدليل ثابت.
35- أن الذبح عند القبر لا يجوز و هو من البدع المحرمة كما لا يجوز الوفاء بالنذر لذلك و لا يصح شرط ذلك في الوقف و هذا و إن كان الذبح لله عند القبر أما لو كان الذبح لصاحب القبر فهو شرك أكبر و مثل الذبح عند القبر الصدقة عنده.
36- أن التعزية عند القبر جائزة بل قد تكون مشروعة و ذلك إن لم تمنع من القيام بحق الميت و الدعاء له و لم يكن فيها محذور شرعي.
37- أن الوعظ عند زيارة القبور و الاجتماع لذلك بدعة لا يجوز أما الوعظ عند دفن الميت فهو جائز أحيانا إن لم يشغل عن القيام بحق الميت و لم يكن في الموعظة تهييج للمصيبة و الأولى عدمه فإنه هدي النبي صلى الله عليه و سلم و المعهود عنه و هو هدي السلف من بعده.
38- أن النذر للموتى أو لقبور الموتى لا يجوز بل هو شرك بالله و لو كان النذر لله و إنما قصد الناذر الإهداء للقبر فهذا لا يجوز و هو نذر معصية و على صاحبه الكفارة في أصح قولي العلماء.
39- أن وطء القبور أو المشي عليها محرم أما المشي بينها بالنعال فهو مكروه إلا من عذر و ذلك على الراجح.
40 استحباب القيام لمن تبع جنازة حتى توضع في الأرض و يكره له الجلوس قبل ذلك أما بعد وضع الجنازة فيجوز الجلوس و القيام أولى في تلك الحال على الصحيح.
41- أن الجلوس على القبر لا يجوز و كذا الاتكاء على القبر و ما في معناه و أعظم من ذلك التخلي على القبور أو بينها.
42- كراهة الحديث في أمر الدنيا في المقبرة و أشد منه الضحك عند القبور و قد اتفق الفقهاء على كراهة رفع الصوت مع الجنازة أو في المقبرة حتى لو كان ذلك بالذكر أو قراءة القرآن أو غيره كما اتفقوا على تحريم التمسح بالقبر أو تقبيله و مثل ذلك على الصحيح لمس القبر باليد لقصد السلام فهو بدعة.
43- اتفق الفقهاء على استحباب وقف الأرض المملوكة لتكون مقبرة و هو من أعمال البر و الإحسان و يحصل وقف المقبرة بالفعل مع القرائن الدالة عليه فلا يحتاج إلى قول كما لا يشترط التسليم أو القبض للزوم وقف المقبرة و لا حكم الحاكم و لا القبول لصحة الوقف و يصح وقف المشاع الذي يحتمل القسمة و لا يصح وقف ما لا يحتمل القسمة ليكون مقبرة و كل ذلك على الراجح من أقوال الفقهاء.
44- للواقف أن يدفن في المقبرة التي أوقفها بلا خلاف و إذا اشترط الواقف في وقف المقبرة أن تكون على طائفة معينة فالصحيح أنه ينظر في شرطه ذلك فقد يكون مكروها أو مباحا أو مندوبا و عليه فقد يلزم الوفاء بشرطه و قد لا يلزم.
45- أن النظر في الأوقاف العامة للمسلمين كالمقبرة يكون للحاكم أو نائبه إلا أن يعين الواقف ناظرا أو يشترطه فيكون النظر لمن اشترطه.
46- الوقف على المقابر لإصلاح أسوارها و حمايتها جائز أما الوقف على عمارة القبر أو وقف الستور للقبر أو الوقف لتنوير القبر أو تبخيره أو بناء مسجد عليه أو نحو ذلك فكله باطل لا يجوز.
47- يجوز للإنسان شراء موضع القبر و يجوز بيعه لموضع القبر إذا كان في ملكه بشروط أما بيع المقابر الموقوفة فلا يصح إلا أن تتعطل منافعها تماما و يبلى من فيها لطول الزمان فيجوز للمصلحة كما يجوز إعارة الأرض للدفن فيها و ليس للمعير أن يرجع في ذلك حتى يبلى الميت.
48- جواز بناء الأسوار على المقابر لأجل حمايتها و صيانتها و الأولى أن لا ترفع الأسوار بحيث تحجز المارة عن مشاهدة القبور و يمكن أن يستغنى عن رفع الحيطان بوضع شباك الحديد فيبنى من الحائط قدر يسير و يرفع باقيه بشباك الحديد.
49- الأفضل في مكان المقبرة أن تكون في الصحراء على جهة من البلد و يختار لها مكان صالح للحفر و الدفن.
50- مشروعية وضع الحرس على المقابر لحمايتها إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
51- يتعين أن تبعد مغاسل الموتى عن القبور حتى لا تصل إليهم مياهها و لو كانت مغسلة الموتى في جهة بعيدة من المقبرة و لا تصل إليهم مياهها فلا حرج في ذلك لكن الأولى أن تكون مغسلة الموتى قريبة من مصلى الجنائز أو المسجد الذي يصلى فيه على الأموات.
52- عامة الفقهاء على جواز تحويل المقابر إلى أشياء أخرى إذا بلي من فيها من الأموات ما لم تكن موقوفة أما لو كانت المقبرة موقوفة فالصحيح جواز بيعها أو تحويلها إلى شيء آخر إذا بلي من فيها من الأموات لطول الزمان و تعطلت منافعها بحيث لا يدفن فيها فتجعل مسجدا أو نحوه أو يشترى بقيمتها مقبرة أخرى.
53- لا يجوز نبش القبر أو الكشف عن الميت بغير سبب أو مسوغ شرعي و من نبش القبور للسرقة فالراجح وجوب قطع يده.
54- يجب نبش القبر لحق الله تعالى كأن يكون الميت لم يغسل أو لم يكفن أو وضع لغير القبلة أو دفن المسلم في مقابر الكفار أو الكافر في مقابر المسلمين أو دفن في المسجد و نحوه أما لو دفن الميت قبل الصلاة عليه فإنه لا ينبش بل يصلى عليه في قبره.
55- يجوز نبش القبر لحق الآدمي في صور منها: أن يكون الميت دفن في أرض مغصوبة أو كفن بكفن مغصوب و تعذرت قيمته أو وقع في القبر متاع أو مال له قيمة و شح به صاحبه أو نحو ذلك و إن كان المستحب في كل هذه الصور التي يجوز فيها نبش القبر لحق الآدمي ترك ذلك احتراما للميت إلا أن يكون فيه ضرر على الحي أو إضاعة لماله.
56- يجوز نبش قبر الميت للحاجة كأن يكون في المدفن الأول ما يؤذي الميت أو كان في وجود القبر ضرر على الأحياء و سلامتهم و لا يجوز نبش القبر لغير الحاجة على الصحيح.
57- لا بأس بنبش قبور الكفار إن كان في نبشها نفع للمسلمين لأن حرمة الكفار ليست كحرمة المسلمين و كذا يباح نبش قبورهم لإخراج المال منها على الصحيح.
58- تحريم إسراج المقابر أو بناء المساجد عليها بل إن ذلك من كبائر الذنوب و هو وسيلة و ذريعة إلى الشرك و عبادة أصحاب القبور.
59- كراهة استخدام المقبرة للسكن أو النوم كما يكره الوضوء أو الاستسقاء من آبارها أما قطع الحشيش من المقبرة و ما شابهه فالصحيح جوازه و أما الرعي في المقبرة فلا يجوز.
60- يجب تفريق مقابر المسلمين عن مقابر الكفار فلا تكون قريبة منها و لا مشابهة لها و كذا مقابر أهل البدع يجب أن تميز و تعرف في البلاد حتى لا يدفن فيها أهل السنة من المسلمين.
هذا والله أعلم و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
المقدمة
الحمد لله الحكيم الخبير، والصلاة والسلام على البشير النذير، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
لقد منّ الله سبحانه على أهل الإسلام خاصة والبشرية عامة فجعل في فقهاء المسلمين على مر العصور من يدرك حاجات مجتمعاتهم، فيجتهدوا في صياغة الأحكام الفقهية وفقاً لمتطلبات العصر، منطلقين من هداية القرآن الكريم والسنة النبوية، وما جاءت به الشريعة من رعاية المصالح والحقوق، ودرأ المفاسد والمظالم، ولقد حظيت سائر الحقوق بالدراسة والبحث من فقهائنا الأجلاء، ومن تلك الحقوق حق الارتفاق المتعلق بتحصيل منافع العقارات بأنواعها الخاصة والعامة، ومع أن هذا النوع من الحقوق قد أخذ اليوم طابعاً مختلفاً، إلا أن الكتابات الفقهية فيه لا تزال قاصرة عن الوفاء بما يتطلبه هذا العصر، الذي جدت فيه أنواعاً من حقوق الارتفاقات التي آلت إلى أنواع من المشكلات والمخالفات بسبب غياب النظام المستمد من الشرع المطهر، وإن كانت بعض النظريات القانونية في هذا الجانب متوفرة اليوم إلا أنها لا يمكن أن تعبر عن الرأي الفقهي، المستمد من أصول التشريع في الكتاب والسنة.
ومسائل الارتفاق يكتنفها شيء من التداخل والغموض، صرح بذلك بعض الفقهاء المتقدمين، حيث قال حسام الدين الشهيد([1]):" وجدت مسائل دعوى الحيطان والطرق ومسيل الماء من أصعب المسائل مراماً، وأعسرها التئاماً"([2])، ولئن كانت مسائل الارتفاق صعبة ومعقدة في ذلك الوقت فهي اليوم أصعب، وأكثر إشكالاً، فقد تعددت أنماط المعاملات والعادات والأعراف، واستجدت ألوان كثيرة من الحقوق المتعلقة بحق الارتفاق في العقارات الخاصة والعامة، مما يعني ضرورة مراجعة ما كتبه الفقهاء المتقدمون مع مراعاة هذا التغير أو التحول في عصرنا الحاضر.
ولعل هذا البحث يعتبر إضافة جديدة لإثراء بعض جوانب موضوع حق الارتفاق، ومساهمة في تتبع بعض صيغه وتطبيقاته المعاصرة، موقناً بأن بحث هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة أكثر توسعاً وعمقاً وتحليلاً، ومقارنة بما هو موجود ومعمول به في الأنظمة الدولية، التي أخذت بها بعض البلدان الإسلامية.
ويمكن انتظام مسائل هذا البحث وتقسيمها إلى ستة مباحث هي كالتالي:
المبحث الأول : تعريف حق الارتفاق، وعلاقته بالحقوق العينية.
المبحث الثاني : الأصل في حقوق الارتفاق، والحكمة منها.
المبحث الثالث: أسباب ثبوت حقوق الارتفاق.
المبحث الرابع : حقوق الارتفاق قديماً، وما تشمله في هذا العصر.
المبحث الخامس : الأولوية في الارتفاق بالمنافع العامة.
المبحث السادس : حقوق الارتفاق في العصر الحاضر.
والله سبحانه أسأل التوفيق والسداد في القول والعمل.
المبحث الأول : تعريف حق الارتفاق، وعلاقته بالحقوق العينية.
أولاً : تعريف الارتفاق :
الارتفاق لغة : الانتفاع, يقال: ارتفقت بالشيء إذا انتفعت به، والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء هو ما يرتفق به، قال سبحانه : ﭽﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭼ([3]).
واسم المكان من ارتفق : مرتفق، قال تعالى : ﭽ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﭼ([4]).
أما الارتفاق في استعمال الفقهاء: فأكثر ما يطلق على المنافع التي تتحقق للعقار، وهو اصطلاح متأخر لم يشتهر عند المتقدمين من الفقهاء([5])، وإنما ذكروا أحكاماً متفرقة له في أبواب متفرقة، ويمكن أن نقف هنا مع تعريفين:
الأول : تعريف الحنفية : أنه حق مقرر على عقار لمنفعة عقار آخر([6]).
الثاني: تعريف المالكية : أنه تحصيل منافع تتعلق بالعقار([7]).
ويلاحظ أن تعريف فقهاء المالكية أعم منه عند الحنفية، لأنه يشمل انتفاع الشخص بالعقار فضلاً عن انتفاع العقار بالعقار، كحق الشرب وحق المرور، لذلك يمكن أن يكون تعريف المالكية أعم وأصح.
والذي يستفاد مما أورده فقهاء الشافعية ([8])والحنابلة ([9])في صور الارتفاق أنهم يتفقون مع ما ذكره فقهاء المالكية في ذلك، فيشمل إطلاق مصطلح الارتفاق عندهم ارتفاق العقار بالعقار وارتفاق الشخص بالعقار.
وبهذا يعلم أن مفهوم حق الارتفاق هو تحصيل المنافع المتعلقة بالعقارات، أو ملاك العقارات، فالارتفاق إذن انتفاع بالعقار وما يتصل به من ماء ونحوه، سواء كان العقار خاصاً، أو كان عاماً يشترك في منفعته عموم الناس.
ثانياً : علاقة حق الارتفاق بالحقوق العينية:
الحقوق العينية: هي تلك الحقوق التي يقررها الشرع لشخص على شيء معين قائم بذاته، كالحقوق المتعلقة بالعقار([10]).
وحق الارتفاق – كما هو ظاهر – حق متقرر على عقار، فهو منصب على ذات شيء، كحق المرور – مثلاً -متعلق بذات الطريق، فهو مرتبط أساساً بعين العقار.
ثالثاً: الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع:
الارتفاق نوع من أنواع الانتفاع ، لكن حق الارتفاق يختص عن سائر حقوق الانتفاع بخصائص، يظهر ذلك جلياً في مقارنة سريعة بين حق الارتفاق وحق الانتفاع، وبيانها كالتالي:
1 – حق الارتفاق حق مرتبط بالعقارات، أما حق الانتفاع فهو غير مرتبط بالعقار، بل ربما كان في العقار كالانتفاع بالعقار الموقوف، وربما كان بغير العقار من المنقولات كالانتفاع بإعارة الكتاب ونحوه.
2 – حق الارتفاق حق ثابت لشخص أو عقار، بينما حق الانتفاع لا يثبت إلا للأشخاص فقط.
3 – حق الارتفاق حق دائم ما دام العقار موجوداً وإن تعدد ملاكه، أما حق الانتفاع فهو مؤقت ينتهي في أحوال معينة.
4 – حق الارتفاق يورث حتى عند فقهاء الحنفية الذين لا يعتبرونه مالاً؛ لأنه تابع للعقار، بينما حق الانتفاع مختلف في إرثه بين الفقهاء ([11]).
المبحث الثاني : الأصل في حقوق الارتفاق، والحكمة منها.
جاءت نصوص نبوية كريمة تدل على بعض حقوق الارتفاق فمن ذلك:
1 - ما جاء في ارتفاق الجار بجدار جاره، فقد ثبت في السنة الصحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره» ، ثم يقول أبو هريرة: «ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم» ([12]).
وهذا الحديث دليل ظاهر على حق الجوار، وهو من أسباب حق الارتفاق، وقد أورد الإمام مالك في الموطأ هذا الحديث في باب القضاء في المرافق، ونقل الباجي عن مطرف وابن الماجشون قولهما:" وكل ما طلبه جاره من فتح باب، وإرفاق بماء، أو مختلف في طريق، أو فتح طريق في غير موضعه، وشبه ذلك، فهو مثل ذلك، لا ينبغي في الترغيب أن يمنعه مما لا يضره ولا ينفعه، ولا يحكم به عليه " ([13]).
قال ابن عبدالبر:"وبهذا الحديث وما كان مثله احتج من رأى القضاء بالمرفق، وأن لا يمنع الجار جاره وضع خشب في جداره، ولا كل شيء يضره" ([14]).
وقال -أيضاً- :"والقضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)؛ لأن هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق في الحكم بينهما، فغير واجب أن يجمع ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم" ([15]).
2 – وفي الصحيحين عن عروة بن الزبير، أن عبد الله بن الزبير، حدثه أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليهم، فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «يا زبير اسق، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا} [النساء: 65] ([16]).
وهذا الحديث أصل في ارتفاق الناس وحقهم في الشرب.
قال الخطابي :" وفيه من الفقه أن أصل المياه الأودية والسيول التي لا تملك منابعها ولم تستنبط بحفر وعمل الإباحة، وأن الناس شرع سواء في الارتفاق بها، وأن من سبق إلى شيء منها فأحرزه كان أحق به من غيره" ([17]).
3 – ما رواه جعفر محمد بن علي الباقر عن سمرة بن جندب، أنه كانت له عضد([18])من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: «فهبه له، ولك كذا وكذا» أمراً رغبه فيه فأبى، فقال: «أنت مضار» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: «اذهب فاقلع نخله» ([19]).
وهذا الحديث فيه دلالة على نوع من أنواع حق الارتفاق وهو حق المرور، وثبوته في حال عدم الضرر، أما مع وجود الضرر فيمنع منه، وقد نقل ابن رجب عن الإمام أحمد في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث: "كل ما كان على هذه الجهة وفيه ضرر، يمنع من ذلك، فإن أجاب وإلا أجبره السلطان، ولا يضر بأخيه إذا كان ذلك فيه مرفق له" ([20]).
4 – وقد عمل الصحابة رضوان الله عليهم بما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجراء تلك الحقوق، فمن ذلك ما رواه مالك وغيره عن الضحاك بن خليفة أنه ساق خليجاً له من العريض، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك: لم تمنعني، وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخراً، ولا يضرك، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا، فقال عمر: " لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً، وهو لا يضرك، فقال محمد: لا والله. فقال عمر: والله ليمرن به، ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك" ([21]).
يقول ابن حجر :" فحمل عمر الأمر (يعني ما ورد في عدم منع الجار جاره من غرز خشبه على جداره)على ظاهره وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه، وفي دعوى العمل على خلافه نظر" ([22]).
وجاء في سبل السلام في شرح هذا الأثر: "وهذا نظير قصة حديث أبي هريرة، وعممه عمر في كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه" ([23]).
ومثل هذا الأثر ما رواه مالك -أيضاً- عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أنه قال: كان في حائط جده ربيع لعبد الرحمن بن عوف، فأراد عبد الرحمن بن عوف أن يحوله إلى ناحية من الحائط هي أقرب إلى أرضه، فمنعه صاحب الحائط فكلم عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب في ذلك «فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله» ([24]).
يقول ابن عبدالبر:" أكثر أهل الأثر يقولون في هذا بما روي عن عمر رضي الله عنه، ويقولون ليس للجار أن يمنع جاره مما لا يضره"([25]).
وقال معقباً على الروايات المأثورة عن عمر رضي الله عنه:" القضاء بالمرفق خارج عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) بدليل حديث أبي هريرة في غرز الخشب على الجدار، وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه لا يجوز للجار أن يمنع جاره ما لا يضره، فيكون حينئذ معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) خرج على الأعيان والرقاب واستهلاكها إذا أخذت بغير إذن صاحبها، لا على المرافق والآثار التي لا تستحق بها رقبة ولا عين شيء وإنما تستحق بها منفعة" ([26]).
وقد عذل الإمام الشافعي الإمام مالكاً وأصحابه لروايتهم هذه الأحاديث والآثار وترك العمل بها، بحجة أنه ليس عليها العمل، فقال:"فرويتم في هذا الكتاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً صحيحاً ثابتاً وحديثين عن عمر بن الخطاب ثم خالفتموها كلها، فقلتم في كل واحد منها لا يقضى بها على الناس، وليس عليها العمل، ولم ترووا عن أحد من الناس علمته خلافها، ولا خلاف واحد منها فعمل من تعني تخالف به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينبغي أن يكون ذلك العمل مردوداً عندنا، وتخالف عمر مع السنة؛ لأنه يضيق خلاف عمر وحده، فإذا كانت معه السنة كان خلافه أضيق، مع أنك أحلت على العمل ، وما عرفنا ما تريد بالعمل إلى يومنا هذا ، وما أرانا نعرفه ما بقينا" ([27]).
هذه بعض النصوص الخاصة في بعض أنواع الارتفاق، وهي تدل على ما سواها من حقوق الارتفاق في الأملاك الخاصة والعامة، ذلك أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات، فكل حقوق الارتفاق المذكورة في كتب الفقهاء أو التي لم تذكر واستجدت في حياة الناس لها حكم تلك الحقوق التي قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، إذا احتاج إليها الناس، وتضررت الأملاك والأموال بدونها، وقد دلّت عمومات النصوص على نفي الضرر ومنعه، في مثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور"لا ضرر ولا ضرار"([28]).
يقول ابن عبدالبر معقباً على هذا الحديث:" وهو لفظ عام متصرف في أكثر أمور الدنيا، ولا يكاد أن يحاط بوصفه، إلا أن الفقهاء ينزعون به في أشياء مختلفة" ([29]).
ولذلك ذكر ابن عبد البر أن الإمام مالك جعل هذا الحديث في موطئه في أول باب القضاء بالمرفق، ثم أردفه بحديث أبي هريرة في الجوار، ثم أردف ذلك بحديثي عمر المذكورين في قصة ابن مسلمة وقصة المازني مع الضحاك وعبد الرحمن بن عوف، ثم قال ابن عبدالبر:" وكأنه جعل هذه الأحاديث مفسرة لقوله صلى الله عليه وسلم:" لا ضرر ولا ضرار" ([30]).
فالحكمة إذن من مشروعية حقوق الارتفاق دفع الضرر وتقليه على أصحاب الأملاك، ومراعاة حاجاتهم ومصالحهم، ولو لم تكن تلك الحقوق مشروعة للحق الناس في أملاكهم أنواع من الضرر، وربما كبر الضرر مع تطور الحياة ونموها وكثرة الحاجات، واتساع رقعة العمران والزراعة والإنتاج، فثبوت تلك الحقوق فيه مصلحة ظاهرة، ورفع للحرج والمشقة، وسيتضح هذا المعنى أكثر ويلاحظ في المباحث القادمة إن شاء الله.
المبحث الثالث: أسباب ثبوت حقوق الارتفاق.
يثبت حق الارتفاق على العقار بأحد الأسباب التالية:
السبب الأول : الشركة العامة :
ويعني ذلك اشتراك الجميع بمنافع العقارات المخصصة للنفع العام، كالطرق والجسور العامة، والأنهار الكبيرة، ومصارف المياه العامة، والحدائق والمواقف العامة، ويترتب على هذه العقارات حقوق ارتفاق لجميع العقارات المتصلة بها، بحسب طبيعة ما خصص له ذلك المرتفق ([31]).
مثال ذلك : الدار الواقعة على الطريق العام لها حق ارتفاق على الطريق هو حق المرور فيه إليها، يقول النووي في روضة الطالبين عند ذكره لتزاحم الحقوق في حق الطريق :" أما النافذ، فالناس كلهم يستحقون المرور فيه، وليس لأحد أن يتصرف فيه بما يبطل المرور، ولا أن يشرع فيه جناحاً، أو يتخذ على جدرانه ساباطاً يضر بالمارة، فإن لم يضر، فلا منع منهما، ويرجع في معرفة الضرر وعدمه إلى حال الطريق ... إلى أن قال : ويجوز لكل أحد أن يفتح الأبواب من ملكه إلى الشارع كيف شاء " ([32]).
والأرض الزراعية الواقعة على نهر عام لها حق ارتفاق عليه هو حق الشرب، وإجراء الماء لسقي زرعها وشجرها، والأرض المتصلة بمصرف عام للمياه لها عليه حق ارتفاق هو حق المسيل([33]).
وثبوت هذا الحق بهذا السبب - الشركة العامة – مشروط بعدم إحداث الضرر عند استعمال هذا الحق ، كما أشار النووي في المثال السابق .
بل نص الفقهاء على أنه لكل أحد أن يطالب أو يعترض لمن يخلّ بالطريق العام ببناء فيه أو نحو ذلك مما يضرّ ويضيق على الطريق، حفاظاً على الحق المشروع للجميع ([34]).
السبب الثاني : المعاوضة على حق الارتفاق :
يختلف الفقهاء في حكم عقد المعاوضة على حقوق الارتفاق، ولهم في كل حق من تلك الحقوق خلاف خاص، وذكر هذا الخلاف يطول جداً، ويخرج بالبحث عن مقصوده، إلا أن الغالب في تلك الحقوق جواز أخذ العوض في مقابلتها عند جمهور الفقهاء ([35]).
وإنما منع من ذلك بعض الفقهاء لما يترتب على المعاوضة من الجهالة والغرر، ولأن تلك الحقوق عندهم ليست أموالاً، فتصح المعاوضة عليها ([36]).
لكن الذي يظهر من كلام أكثر الفقهاء هو جواز المعاوضة -بالبيع أو الإجارة أو الصلح- على حق الارتفاق، للحاجة الداعية لذلك، ولأن الجهالة اليسيرة مغتفرة في الشرع، وهي جهالة محتملة لا تؤدي إلى النزاع، ولأن حق الارتفاق حق مالي تجوز المعاوضة عليه.
السبب الثالث : اشتراط حق الارتفاق في عقد معاوضة :
اشتراط حق الارتفاق في عقد المعاوضة على العقار جائز عند عامة الفقهاء([37])، حتى الذين منعوا من المعاوضة على حق الارتفاق استقلالاً أجازوه تبعاً للعقار، يقول الكاساني:"ولو باع الأرض مع الشرب جاز تبعاً للأرض، ويجوز أن يجعل الشيء تبعاً لغيره وإن كان لا يجعله مقصوداً بنفسه كأطراف الحيوان" ([38]).
ومثال ذلك : لو باع شخص قطعة أرض له لآخر واشترط عليه أن يكون عليها حق مرور أو حق مجرى أو حق مسيل لقطعة أرض أخرى مملوكة له جاز ذلك في العقد.
السبب الرابع: التبرع بحق الارتفاق:
يثبت حق الارتفاق بالتبرع به، ولم أطلع على خلاف في هذا بين الفقهاء، فهو لازم قول من جوّز المعاوضة على حق الارتفاق ([39])، أما من منعه في بعض الصور– وهم الحنفية - فقد أجازوا التبرع به، جاء في الهداية:"وليس له أن يسقي أرضه ونخله وشجره من نهر هذا الرجل، وبئره وقناته إلا بإذنه نصاً، وله أن يمنعه من ذلك؛ لأن الماء متى دخل في المقاسم انقطعت شركة الشرب بواحدة؛ لأن في إبقائه قطع شرب صاحبه، ولأن المسيل حق صاحب النهر، والضفة تعلق بها حقه، فلا يمكنه التسييل فيه، ولا شق الضفة، فإن أذن له صاحبه في ذلك أو أعاره فلا بأس به؛ لأنه حقه فتجري فيه الإباحة" ([40]).
السبب الخامس: الإرث لحق الارتفاق:
حقوق الارتفاق تثبت بسبب الإرث؛ لأنها أموال يجوز المعاوضة عليها، كما هو رأي جمهور الفقهاء، بل حتى الذين منعوا المعاوضة عن بعض حقوق الارتفاق قالوا بجواز إرثها؛ لأنها تثبت بطريق الحكم التبعي غير المقصود، بخلاف المعاوضة التي تثبت بطريق القصد، يقول ابن عابدين :" ويورث الشرب؛ لأن الملك بالإرث يقع حكماً لا قصداً، ويجوز أن يثبت الشيء حكماً، وإن كان لا يثبت قصداً، كالخمر تملك حكماً بالميراث، وإن لم تملك قصداً بسائر أسباب الملك" ([41]).
ويقول الزيلعي:"ويورث الشرب، ويوصى بالانتفاع بعينه، ولا يباع، ولا يوهب، والفرق أن الورثة خلفاء الميت فيقومون مقامه في حقوق الميت وأملاكه، وجاز أن يقوموا مقامه فيما لا يجوز تمليكه بالمعاوضات والتبرعات كالدين والقصاص والخمر فكذا الشرب" ([42]).
السبب السادس: الوصية بحق الارتفاق:
الوصية –كما قال فقهاء الحنفية- أخت الميرات ([43])، فهي مثله يجوز فيها أن تكون سبباً في حصول الارتفاق، يقول السرخسي :"وإن أوصى فيه بوصية جاز؛ لأن الوصية أخت الميراث" ([44]).
وقال الكاساني:"ويوصي به- يعني حق الشرب- حتى لو أوصى لرجل أن يسقي أرضه مدة معلومة من شربه جازت الوصية وتعتبر من الثلث؛ لأن الوصية وإن كان تمليكاً لكنها تمليك بعد الموت، ألا ترى أن الموصى له لا يملك الموصى به في الحال وإنما يملك بعد الموت فأشبه الميراث، فإذا احتمل الإرث احتمل الوصية التي هي أخت الميراث" ([45]).
هذا عند فقهاء الحنفية، أما سائر الفقهاء الذين يجوّزون المعاوضة على حقوق الارتفاق فهم يجوّزون الوصية فيها من باب أولى.
السبب السابع: تقادم حق الارتفاق:
اعتبار التقادم سبباً من أسباب ثبوت حق الارتفاق هو ما الذي يذكره عامة الفقهاء، ذلك أن ثبوت الارتفاق منذ زمن قديم دون معارضة من أحد يدل على أن الحق نشأ عن سبب صحيح وإن كان مجهولاً، لأن القدم وإن كان بمجرده لا ينشئ حقاً إلا أنه أمارة على ثبوت الحق ونشوئه عن سبب صحيح معتبر، يقول ابن قدامة:" وإذا وجد بناؤه أو خشبه على حائط مشترك، أو حائط جاره، ولم يعلم سببه، فمتى زال فله إعادته؛ لأن الظاهر أن هذا الوضع بحق من صلح أو غيره، فلا يزول هذا الظاهر حتى يعلم خلافه، وكذلك لو وجد مسيل مائه في أرض غيره، أو مجرى ماء سطحه على سطح غيره، وما أشبه هذا، فهو له؛ لأن الظاهر أنه له بحق فجرى ذلك مجرى اليد الثابتة، وإذا اختلفا في ذلك، هل هو بحق أو بعدوان؟ فالقول قول صاحب الخشب والبناء والمسيل مع يمينه؛ لأن الظاهر معه" ([46]).
ومثل هذا ذكره فقهاء الحنفية ([47])والمالكية ([48])والشافعية ([49]).
وذكر فقهاء الحنفية أن المعتبر في حد القدم هو أن لا يحفظ ما قبله، جاء في المحيط البرهاني :"وحد القديم أن لا يحفظ أقرانه وراء هذا الوقت كيف كان"([50]).
السبب الثامن: الجوار، وهو خاص بحق ارتفاق الجوار:
الجوار في العقارات ينشئ حقوقاً بين المتجاورين، يجب على كل صاحب عقار مراعاتها، والأصل في ذلك ما ثبت في السنة الصحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره» ، ثم يقول أبو هريرة: «ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم» ([51]).
وقد أخذ أهل الحديث وجماعة من الفقهاء بهذا النص النبوي وحملوه على الوجوب، فيجب على الجار تمكين جاره من المنافع المشتركة بينهما ما لم يكن بذلك ضرر عليه([52]).
وحمل جماعة من الفقهاء هذا الحديث على الندب والاستحباب فلم يروا ذلك لازماً، لأن الإنسان حرّ في ملكه، ولا يحلّ شيء منه إلا عن طيب نفس ([53]).
قال الطبري :" فدل صلى الله عليه وسلم بذلك أن إرفاق الرجل جاره بحمل أطراف خشبته على جداره، من أخلاق الناس وجميل أفعالهم، لا أن ذلك حق واجب له عليه، يقضى له به عليه إن امتنع من إرفاقه به" ([54]).
لكن العمل بظاهر النص هو الأولى، خاصة في حال عدم الضرر البيّن على الجار، ولهذا فالجوار سبب من أسباب حق الارتفاق على الراجح.
وقد أخذت مجلة الأحكام العدلية بالقول بالوجوب، ففي نص المادة(1210):" أما إذا أراد أحدهما بناء بيت في عرصته فله أن يضع رؤوس جذوعه على الحائط، وليس لشريكه منعه، بل يقال له: ضع أنت مثل ذلك إن شئت" ([55]).
المبحث الرابع : حقوق الارتفاق قديماً، وما تشمله في هذا العصر.
جاءت أحكام الارتفاق في كتب المتقدمين من الفقهاء في مواضع متفرقة، وتحت عناوين مختلفة، فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: أن بعض فقهاء الحنفية قد أوردوا تلك الحقوق في باب أو كتاب (الشرب)([56])، وبعضهم في كتاب (القسمة والاستحقاق) ([57])، بينما أوردها جماعة من فقهاء المالكية في باب (نفي الضرر في الشركة) ([58])، كما أوردها بعضهم وبعض الشافعية في كتاب (إحياء الموات) ([59]) ، وبعض الشافعية في باب (تزاحم الحقوق) ([60])، وأوردها الحنابلة في باب (الصلح) ([61]).
ولعل السبب في عدم انتظام تلك الحقوق تحت باب أو عنوان واحد متفق عليه بين جماعة الفقهاء أن مصطلح الارتفاق مصطلح جديد، وهو أيضاً محل خلاف فيما يشمله، لذلك تجد بعضهم يقتصر في تسمية حقوق الارتفاق على حقوق الجوار([62])، أو منافع الدار، وبعضهم يقصرها على حقوق العقارات بين بعضها فقط، والحنفية يطلقون الارتفاق على ما يرتفق به، ويختص بما هو من التوابع، كالشرب ومسيل الماء والطريق والمرور والمجرى والجوار، وأبو يوسف من الحنفية خص الارتفاق بمنافع الدار ([63])، وقد تقدم جزء من هذا في المبحث الأول.
ولعلي في هذا المبحث أن أعرض حقوق الارتفاق كما ذكرها الفقهاء المتقدمون ونصوا عليها، وإن كان بعضها لم يعد موجوداً في عصرنا الحاضر على صورته السابقة ، لكن لا بد من ذكرها هنا كالتوطئة لما سيأتي من حقوق ارتفاق معاصرة، نص عليها فقهاؤنا المعاصرون، ليعلم القارئ أن أشكال حق الارتفاق لا ينبغي أن تقف عند حد معين، بل قد تأتي بأشكال مختلفة حسب حاجات كل عصر، ولكل من المرافق الآتي ذكرها مصطلح خاص به، وأحكام وتفصيلات في كل مذهب، ولذلك سأكتفي بتعريف كل واحد من هذه المرافق، مع بيان حكمه، وترك التفصيل للمصطلحات الخاصة بكل مذهب؛ مراعاة لموضوع البحث وحاجته، والمشهور في كتب الفقهاء ستة حقوق هي كالتالي:
أولاً : حق الشِرب:
الشِرب: لغة: الحظ والنصيب من الماء ([64]).
وفي الاصطلاح:هو الحظ والنصيب من الماء غير المحرز، والخاص بسقي المزروعات فقط([65]).
وحق الارتفاق بالشرب متفق عليه بين الفقهاء ([66])، وهو يختلف بحسب أنواع المياه التي ينتفع بها العقار، من مياه الأنهار الكبيرة والصغيرة ومياه الآبار والعيون والسيول وغيرها، وقد أورد الفقهاء مسائل كثيرة تتعلق بحق الشِرب، لا أرى حاجة لإثقال البحث فيها، خاصة وأن أكثرها من المسائل قليلة الحدوث اليوم.
أما مقدار حق الشرب فهو الإرواء، لأن حكم الشيء ما يفعل لأجله، وهو يختلف باختلاف الأرضين، وما فيها من شجر ونبت، ووقت الشرب صيفاً وشتاء، وحال الماء في استمراره واقطاعه، ولهذا فالمعتبر في حق الشرب هو قدر الكفاية، والكفاية معتبرة بالعرف والعادة المعهودة عند الحاجة، وهذا ما رجحه الإمامان الماوردي وأبو يعلى ([67]).
ولا يدخل في حق الشرب – بالكسر- سقي الإنسان والحيوان، بل ذاك يسميه الفقهاء حق الشفة ([68]).
ثانياً : حق المجرى:
المجرى لغة: اسم مكان، صيغ من مصدره وهو الجري([69]).
وفي الاصطلاح: حق إجراء الماء الصالح في أرض الغير لإيصاله إلى الأرض المراد سقيها ([70]).
وحق المجرى في حقيقته مرتبط بحق الشرب، فالشرب هو النصيب من الماء، والمجرى هو موضعه الذي يجري فيه، إلا أنه قد ينفصل الشرب عن المجرى في حال كون الأرض التي لها النصيب واقعة على موضع الشرب من الأنهار أو العيون ونحوها.
وحق المجرى يختلف بحسب اختلاف مكانه والملك الذي هو فيه، فقد يكون الحق في الارتفاق بالمجرى الخاص الذي يكون في عقار الغير، وقد يكون المجرى مشتركاً، وقد يكون عاماً، ويندرج تحت كل نوع من هذه الأنواع مسائل وأحكام خاصة، ناقشها الفقهاء المتقدمون في سائر المذاهب ([71]).
ومجاري المياه العامة في العصر الحاضر صارت تحت نظر الدولة ومسؤوليتها، فليس لأحد أن يتصرف فيها إلا بعد إذن الدولة.
ويمكن أن يلحق بحق المجرى في عصرنا الحاضر كل شيء يحتاج إلى إيصاله إلى العقارات والأراضي المحتاجة من كهرباء ووقود وزيوت، ونحو ذلك مما تحتاجه العقارات ويمر بعقارات أخرى مملوكة لأشخاص أو غير مملوكة.
ثالثاً: حق المسيل:
المسيل لغة: مجرى السيل وموضعه، والجمع (مسايل) و(مسل) بضمتين، والسيل مياه الأمطار إذا سالت ([72]).
وفي الاصطلاح:هو حق صرف الماء الزائد عن الحاجة أو غير الصالح بإرساله في مجرى سطحي أو في أنابيب أعدت لذلك، حتى يصل إلى مقره من مصرف عام أو مستودع([73]).
وقد ذكر الفقهاء أحكاماً خاصة في حق الارتفاق بالمسيل، ولا أرى حاجة للخوض فيها هنا، إلا أن من المهم أن نذكر أن المسيل على أربعة أنواع:
1- المسيل العام: وهو الذي يشترك في حق الاتفاق فيه عموم الناس في عقاراتهم، فيسيل مياهه عبرها، بشرط عدم الضرر، وهذا النوع من الارتفاق في العصر الحاضر ترعاه وتنظمه الدول بوزارات ومؤسسات خاصة، عبر قنوات لتصريف مياه الأمطار أو الصرف الصحي من العقارات، مما يحفظ للناس هذا الحق العام، ويدفع عنهم الضرر.
2- المسيل الخاص في عقار الغير: بأن يكون للإنسان حق تصريف مياه عقاره إلى عقار غيره، وهذا النوع يجري بين أصحاب الأملاك المشتركة أو الجيران، وثبوت حق الارتفاق في هذا النوع يحكمه تغير العرف والعادة حسب الأمكنة والأزمنة.
3- المسيل المملوك في عقار الغير: وهذا النوع كالنوع السابق، إلا أن المسيل هنا مملوكاً لصاحبه في أرض غيره، فالحق ثابت له فيه.
4- المسيل المشترك: وهو الذي يكون بين مجموعة من أصحاب العقارات، ويدخل في هذا ما يكون اليوم في مباني المجمعات السكنية أو التجارية التي يكون تصريف مياهها ومجاريها مشتركاً، فلكل منهم الحق في الارتفاق فيه، من غير إحداث ضرر بالآخرين([74]).
رابعاً : حق المرور:
المرور لغة: مصدر مرّ يمر مراً ومروراً، بمعنى جاء وذهب، ومرّ به ومرّه: جاز عليه، والممر: موضع المرور ([75]).
وفي الاصطلاح :هو حق مرور الإنسان إلى ملكه من طريق عام أو من طريق خاص في ملك غيره ([76]).
وتختلف طبيعة الارتفاق في حق المرور بحسب الطريق الذي يكون فيه المرور، وقد ذكر فقهاء الحنفية ([77])أن الطرق ثلاثة:
1- الطريق الأعظم:وهو ما يسمى بالطرق العامة التي لا يختص بها فرد أو جماعة معينون، فلكل أحد من الناس حق الارتفاق بالمرور فيها، ويتبع حق المرور في الطرق العامة أنواع ارتفاقات أخرى منها مؤقتة كالجلوس أو البيع والشراء ، وإلقاء الطين ونحوه، ومنها حقوق دائمة كفتح الأبواب والنوافذ وإخراج الشرفات والأجنحة، والبناء والغرس، وغير ذلك مما يذكره الفقهاء هنا، وفي بعضها تفصيل وخلاف يطول ذكره، كما يلحق بحق المرور في الطرق العامة حقوق ارتفاقات استجدت في زمننا: كحق استعمال الطريق في الوقوف فيه بالسيارات، أو جعله مكاناً للدعاية والإعلان، ونحو ذلك ([78]) .
وقد اشترط عامة الفقهاء للارتفاق بالطرق العامة انتفاء الضرر عند الارتفاق أياً كان نوع الارتفاق، وذكروا لذلك صوراً من الأضرار ([79]) ، وهي تختلف من زمن لزمن، ويرجع في تقدير حجم الضرر ونوعه والمنع منه إلى نظر الدولة - كما سيأتي - ([80]) .
والطرق العامة سواء كانت مخصصة للسيارات الكبيرة أوالصغيرة أو للمشاة تكون تحت إشراف الدولة تعبيداً وحماية وصيانة، وينبغي أن تراعى في الطرق سعتها ليتمكن الناس من الانتفاع فيها على الوجه الصحيح، وقد جاء في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اختلفتم في الطريق، جعل عرضه سبع أذرع» ([81]).
قال الخطابي:"هذا في الطرق الشارعة، والسلُك النافذة، التي كثر فيها المارة أمر بتوسعتها؛ لئلا تضيق عن الحمولة، دون الأزقة الروابع التي لا تنفذ، ودون الطرق التي يدخل منها القوم إلى بيوتهم إذا اقتسم الشركاء بينهم ربعاً وأحرزوا حصصهم وتركوا بينهم طريقاً يدخلون منه إليها، ويشبه أن يكون هذا على معنى الارفاق والاستصلاح دون الحصر والتحديد" ([82]).
وما قاله الخطابي هو الصواب، فالحديث المقصود به حصول مصلحة الناس في الارتفاق بالطريق من غير حصر أو تحديد، بل كل زمان له ما يناسبه من سعة الطرق، بحسب الحاجة إلى أنواع الاستطراق، والارتفاق بالمرور وغيره ([83]).
2 - طريق إلى سكة غير نافذة:والمقصود بهذا هو الطريق الخاص لجماعة معينين، فهي مشتركة بينهم، وإن كان لغيرهم حق المرور فيها للحاجة، ولذلك لا يجوز لهم سدها أو بيعها وإن كانت في الأصل ملكاً لهم، كما لا يجوز لأحد منهم إحداث شيء فيها إلا بإذن الشركاء ([84]).
3 - طريق خاص في ملك إنسان:قد يتقرر حق الارتفاق بالمرور في عقار لمصلحة عقار آخر، وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه مبيّناً هذا الحق فقال في المساقاة: "باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل"، ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن المنيّر قوله:"وجه دخول هذه الترجمة في الفقه التنبيه على إمكان اجتماع الحقوق في العين الواحدة، هذا له الملك وهذا له الانتفاع" ([85]).
وهذا ما نصت عليه المادة (1225) من مجلة الأحكام العدلية: " إذا كان لأحد حق المرور في عرصة آخر، فليس لصاحب العرصة أن يمنعه من المرور والعبور " ([86]).
خامساً : حق الجوار:
الجوار لغة: مصدر جاور يجاور مجاورة وجواراً، والجار المجاور في السكن، ويطلق الجار: على الشريك في العقار، والخفير الذي يجير غيره ويؤمنه، والحليف والزوج ([87]).
ويمكن تعريف حق الجوار في الاصطلاح بأنه: حق يثبت لعقار على عقار مجاور له، يتمكن الجار بسببه من تمام الانتفاع بملكه، أو يمنعه من بعض التصرفات.
لاستكمال القراءة يرجى تحميل ملفات الكتاب
word أو pdf
التفاصيلالمقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
القضاء هو الوسيلة لتحقيق العدل ورفع الظلم، وهو الميزان الذي يقاس به استقرار الحياة وسلامتها، لذلك اتفقت البشرية في مختلف العصور على أهمية تحقيق العدل من خلال القضاء، "ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، فكانوا يحكمون لأممهم" ([1])، وجاء عنه صلوات الله وسلامه عليه الترغيب في العدل في القضاء، وعظم أجر العادل من القضاة، في قوله صلى الله عليه وسلم : «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» ([2]).
ولقد عقد فقهاء المسلمين في كتبهم أبواباً كثيرة من أجل القضاء، عالجوا فيها كثيراً من مسائله، وكان مما تعرضوا له ما يخص صفات القاضي وآدابه، وشروط تقليده، فاتفقوا على بعض تلك الشروط، واختلفوا في بعضها، وكان شرط الذكورة في القاضي محل خلاف بينهم، فاختلفوا هل يصح تولية المرأة القضاء ؟
ولئن كان هذا الأمر في بعض البلدان الإسلامية شبه محسوم بنص الدستور والنظام، ووجدت المرأة في السلك القضائي في مختلف مراتبه في بعض تلك البلدان، فإنه لا زالت بلدان أخرى منها المملكة العربية السعودية لا تقبل بتولية المرأة القضاء، ولا تسند إليها شيئاً من مسؤوليات القاضي، ومع أن هذا الأمر شبه محسوم في نظام تلك الدول إلا أنه قد يطرأ عليها ما يغيّره، خاصة في ظل التصعيد الإعلامي، والجدل الكبير في موضوعات كثيرة تخص قضايا المرأة.
وفي نظري أن كثيراً من المفكرين والكتاب بل ومن العلماء عند دراسة مثل تلك الموضوعات ومعالجتها يقفون في أحد طرفين، طرف يرى أن مجرد طرح موضوعات المرأة والمساس بها لا ينبغي، فضلاً عن دراستها دراسة شرعية أو اجتماعية أو اقتصادية، ولذلك فلا غرابة أن تجد بعض أهل الغيرة من إخواننا في قضية البحث مثلاً ينسب القول بجواز تولي المرأة للقضاء لبعض أعداء الملّة من المستغربين والمستشرقين ومن نَحَا نَحْوَهم ولَفّ لفّهم، وأن كل من كتب أو قال بقول في هذه القضية لا يوافق مذهبه فهو في نظره يخوض ويهرف فيما لا يعرف، ويعني هذا - في الحقيقة - أن هذه القضية عند بعض الغيورين لا ينبغي أن تطرح أو تدرس، فهو أمر مفروغ منه، لا طائل من بحثه، والنظر في دلالة النصوص الشرعية عليه.
أما الطرف الآخر فهم أولئك الذين لا يريدون لقضايا المرأة وموضوعاتها أن تصبغ بأي صبغة شرعية، ويريدون لها فعلاً أن تطرح بعيداً عن أقوال العلماء والفقهاء المجتهدين، فأقوال الفقهاء ونظراتهم لم تعد صالحة لهذا العصر، ولهذا لا ينبغي لهم أن يتكلموا أو يكتبوا، في حين أن غيرهم من المثقفين وأشباه المتعلمين هم من يقرر مصير الأمة في كثير من القضايا المعاصرة التي منها قضايا المرأة.
إن هذه الحال التي تعيشها مجتمعات إسلامية كثيرة حال مزرية، اختفى فيها أو في أكثرها نور الحق وصوته، واختلطت على كثير من أبناء المسلمين تلك القضايا والموضوعات المستجدة، وأضحت مثار جدل مستمر في كثير من المنتديات على كافة الأصعدة.
وإنني آمل أن تكون هذه الدراسة دراسة رزينة هادئة تقف في قضية مفصلية خطيرة من قضايا الأمة الإسلامية موقفاً لا يدفعه أي توجه أو اتجاه إلا نصرة الحق، بسلاح الدليل والبرهان من وحي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، بفهم أهل العلم من سلف الأمة السابقين، وعلمائها المعاصرين.
ولقد رأيت أن تكون دراسة هذه المسألة وفق الخطة التالية:
المبحث الأول: تحرير أقوال الفقهاء في اشتراط الذكورة للقضاء. تولية المرأة للقضاء
المبحث الثاني: دلالة النصوص في حكم تولية المرأة للقضاء.
المبحث الثالث: الأدلة العقلية ومراعاة المصالح.
المبحث الرابع: الموازنة بين الأقوال والترجيح.
اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه.
ولا تجعل الحق ملتبساً علينا فنضل.
المبحث الأول: تحرير أقوال الفقهاء في تولية المرأة للقضاء.
وفي هذا المبحث مطلبان:
المطلب الأول: مدى صحة نقل الاتفاق أو الإجماع في المسألة.
المطلب الثاني: الأقوال في المسألة مع تحرير نسبتها.
المطلب الأول: مدى صحة نقل الاتفاق أو الإجماع في المسألة.
نقل إجماع العلماء على عدم جواز تولي المرأة للقضاء جماعة من العلماء منهم:
1 – الماوردي في الأحكام السلطانية، فقد قال بعد أن نقل قول أبي حنيفة في صلاحيتها للقضاء فيما تصح فيه شهادتها:" وشذ ابن جرير الطبري فجوز قضاءها في جميع الأحكام، ولا اعتبار بقول يرده الإجماع" ([3]).
2 – البغوي في شرح السنة، حيث قال:" اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إماماً ولا قاضياً، لأن الإمام يحتاج إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد، والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز، وتعجز لضعفها عند القيام بأكثر الأمور، ولأن المرأة ناقصة، والإمامة والقضاء من كمال الولايات، فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال" ([4]).
لكن هذا النقل للإجماع محل نظر لا يخفى، إذ الخلاف بين الفقهاء قائم في هذه المسألة- كما سيأتي-، ولعل عذر هؤلاء الأئمة في نقلهم الإجماع عدم اطلاعهم على خلاف من خالف في المسألة، أو أن يكون مرادهم اتفاق الأكثر، كما ذكر ابن حجر في الفتح، حيث قال :" واتفقوا على اشتراط الذكورية في القاضي إلا عن الحنفية، واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير" ([5]).
أو أن يكون المراد من نقل هذا الاتفاق أو الإجماع هو الإجماع العملي على عدم توليتها منصب القضاء من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمانهم، ولذلك قال القرافي بعد أن ساق الخلاف في حكم تولية المرأة القضاء:" ولذلك لم يسمع في عصر من الأعصار أن امرأة وليت القضاء فكان ذلك إجماعاً؛ لأنه غير سبيل المؤمنين" ([6]).
وقال القاضي أبو الوليد الباجي بعد أن ذكر خلاف العلماء:" ويكفي في ذلك عندي عمل المسلمين من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعلم أنه قُدم لذلك في عصر من الأعصار، ولا بلد من البلاد امرأة، كما لم يقدم للإمامة امرأة " ([7]).
وقال ابن قدامة:"لم يولّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من خلفائه، ولا من بعدهم، امرأة قضاء ولا ولاية بلد، فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً " ([8]).
المطلب الثاني: الأقوال في المسألة مع تحرير نسبتها:
في حكم تقليد المرأة منصب القضاء ثلاثة أقوال، وسوف أعرضها هنا بشيء من التفصيل في نسبتها إلى من قال بها، ونقل النصوص الدالة على تلك النسبة، لأنه قد حصل في نسبة تلك الأقوال قدح وتشكيك، فأحببت أن يرى القارئ من نصوص الفقهاء تلك الأقوال، لعل ذلك يزيل ما أثير حول نسبة تلك الأقوال إلى قائليها، والأقوال هي كالتالي:
القول الأول:المنع من تولي المرأة للقضاء وتحريم ذلك عليها، فإن تولت القضاء فهي آثمة، ومن ولى المرأة القضاء آثم -أيضاً-.
وهذا القول منسوب لأكثر فقهاء المسلمين من أصحاب المذاهب، فهو قول فقهاء المالكية إلا القاسم([9])وهو قول الشافعية ([10]) والحنابلة ([11]).
ولا حاجة لنقل نصوص فقهاء المذاهب وعباراتهم هنا؛ لعدم وجود أي قدح في نسبة هذا القول إلى هذه المذاهب.
القول الثاني:جواز تقليد المرأة منصب القضاء في كل شيء إلا في الحدود والقصاص، وهذا هو مذهب الحنفية ([12])، ونسب لابن القاسم من المالكية.
وسوف أنقل هنا جملة من نصوص فقهاء المذهب الحنفي، وهي تبيّن بجلاء صحة هذه النسبة للمذهب، فمن في ذلك:
1 – قول المرغيناني في الهداية:"ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص؛ اعتباراً بشهادتها" ([13]).
2 – قول الكاساني في بدائع الصنائع:"وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد- يعني تقليد منصب القضاء- في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة، إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة" ([14]).
3 – وقال الكمال ابن الهمام:"وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء في الحدود والدماء، فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما" ([15]).
وبهذا يظهر أن حكم تولي القضاء معتبر عند علماء الحنفية بحكم الشهادة، لأن كل واحد منهما من باب الولاية، فكل من كان أهلاً للشهادة يكون أهلاً للقضاء، والمرأة أهل للشهادة في غير الحدود والقصاص، فهي أهل للقضاء في غيرهما ([16]).
قالوا : "والجهة الجامعة بين القضاء والشهادة كون كل واحد منهما تنفيذ القول على الغير" ([17]).
وكما يلاحظ من نصوص بعض فقهاء الحنفية النص على جواز تقليد المرأة منصب القضاء، فقد نص آخرون منهم على تأثيم المولي للمرأة للقضاء، مع صحة قضائها، ونفاذ الحكم المقضي به لو قضت.
فمن ذلك:
1 – ما جاء في فتح القدير للكمال ابن الهمام:" والكلام فيما لو وليت، وأثم المقلد بذلك، أو حكمها خصمان فقضت قضاء موافقاً لدين الله أكان ينفذ أم لا؟ لم ينتهض الدليل على نفيه بعد موافقته ما أنزل الله لا أن يثبت شرعاً سلب أهليتها، وليس في الشرع سوى نقصان عقلها، ومعلوم أنه لم يصل إلى حد سلب ولايتها بالكلية؛ ألا ترى أنها تصلح شاهدة وناظرة في الأوقاف ووصية على اليتامى، وذلك النقصان بالنسبة والإضافة، ثم هو منسوب إلى الجنس فجاز في الفرد خلافه؛ ألا ترى إلى تصريحهم بصدق قولنا: الرجل خير من المرأة مع جواز كون بعض أفراد النساء خيراً من بعض أفراد الرجال، ولذلك النقص الغريزي نسب - صلى الله عليه وسلم - لمن يوليهن عدم الفلاح، فكان الحديث متعرضاً للمولين ولهن بنقص الحال، وهذا حق، لكن الكلام فيما لو وليت فقضت بالحق لماذا يبطل ذلك الحق" ([18]).
2 - وجاء في مجمع الأنهر:" ويجوز قضاء المرأة في جميع الحقوق؛ لكونها من أهل الشهادة، لكن أثم المولي لها؛ للحديث «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» في غير حد وقود؛ إذ لا يجري فيها شهادتها، وكذا قضاؤها في ظاهر الرواية، فلو قضت في حد وقود فرفع إلى قاض آخر فأمضاه ليس لغيره أن يبطله كما في الخلاصة" ([19]).
3- وقال ابن نجيم في البحر الرائق:"وتقضي المرأة في غير حد وقود؛ لأنها أهل للشهادة في غيرهما، فكانت أهلاً للقضاء، لكن يأثم المولي لها للحديث «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري، ... وأما سلطنتها فصحيحة، وقد ولي مصر امرأة تسمى شجرة الدر جارية الملك الصالح بن أيوب، وفي الخلاصة لو قضت في الحدود والقصاص فرفع إلى قاض آخر فأمضاه ليس لغيره أن يبطله" ([20]).
وهذه النصوص الأخيرة تبيّن أن من فقهاء الحنفية من يرى تحريم تولية المرأة القضاء، مع صحة قضائها ونفاذه، وبعضهم يعمم التحريم في قضائها في كل شيء، وبعضهم يخصه بما لا يصح قضاؤها فيه من الحدود والقصاص، ولعل هذه النصوص وما شابهها في كتب الحنفية هي ما دفعت بعض المعاصرين إلى أن ينكر نسبة القول بجواز تولية المرأة للقضاء إلى فقهاء الحنفية ([21]).
لكن الحقيقة أن أكثر فقهاء المذهب الحنفي قد نصوا على جواز تقليد المرأة القضاء فيما يصح أن تشهد فيه، أي في غير الحدود والقصاص، وأن قضاءها حينئذ صحيح نافذ، ومن أوضح العبارات في ذلك، والتي ليس فيها أدنى إيهام، قول الكاساني:"وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد- يعني تقليد منصب القضاء- في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة، إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة" ([22]).
كما أن عامة من ذكر مذاهب الفقهاء في هذه المسألة من العلماء الأجلاء نسبوا القول بجواز قضاء المرأة إلى المذهب الحنفي، أو إلى أبي حنيفة، ومن أولئك الأعلام على سبيل المثال، القاضي عبد الوهاب ([23])وابن رشد([24])، والباجي ([25])، وابن حزم ([26])، وابن قدامة ([27])، والغزالي ([28])، والماوردي ([29])والعمراني ([30]) وابن حجر([31])، وغير هؤلاء من المتقدمين والمتأخرين كثير ([32])، مما يدل بدون أدنى شك على صحة نسبة هذا القول إلى المذهب الحنفي.
وبهذا يتبين - أيضاً – عدم صحة منهج التشكيك الذي يسلكه بعض المعاصرين فيقدحون في نسبة القول بجواز قضاء المرأة في غير الحدود والقصاص إلى المذهب الحنفي، ويتأولون ذلك بتأويلات بعيدة، تردها كتب المذهب نفسه، وعبارات فقهائه ([33]).
وأما نسبة هذا القول إلى ابن القاسم من المالكية فهو ما ذكره بعض فقهاء المذهب المالكي، ورجحه الحطاب في مواهب الجليل، فقال:" قال في التوضيح: وروى ابن أبي مريم عن ابن القاسم جواز ولاية المرأة، قال ابن عرفة، قال ابن زرقون: أظنه فيما تجوز فيه شهادتها، قال ابن عبد السلام: لا حاجة لهذا التأويل لاحتمال أن يكون ابن القاسم قال كقول الحسن، والطبري بإجازة ولايتها القضاء مطلقاً " ثم قال الحطاب: "قلت: الأظهر قول ابن زرقون؛ لأن ابن عبد السلام، قال في الرد على من شذ من المتكلمين وقال الفسق لا ينافي القضاء ما نصه: وهذا ضعيف جداً؛ لأن العدالة شرط في قبول الشهادة والقضاء أعظم حرمة منها، (قلت) فجعل ما هو مناف للشهادة مناف للقضاء فكما أن النكاح والطلاق والعتق والحدود لا تقبل فيها شهادتها فكذلك لا يصح فيها قضاؤها" ([34]).
وقد نقل هذا القول ابن حجر في الفتح على أنه رواية عن مالك، وكذلك فعل المباركفوري في تحفة الأحوذي ([35])، والظاهر أن هذا النقل وهمٌ منهما؛ إذ لم يرد في كتب المالكية نقل ذلك رواية عن مالك، بل نقل قولاً عن ابن القاسم فقط.
القول الثالث:جواز قضاء المرأة على الإطلاق في كل شيء.
وهذا القول منسوب إلى الإمام الطبري، والحسن البصري، كما أنه منسوب إلى محمد بن الحسن من الحنفية، وابن القاسم من المالكية، وهو قول ابن حزم من الظاهرية ([36]).
أما نسبة هذا القول إلى محمد بن الحسن فلم أجده فيما بين يدي من كتبه، أو كتب الحنفية، وإنما نقله عنه أبو الوليد الباجي ([37])، وأبو الوليد ابن رشد الجد ([38])، من علماء المالكية.
وأما نسبة هذا القول إلى الإمام الطبري فهي مشهورة، فقد نسبه إليه القاضي عبدالوهاب ([39]) وابن رشد الجد([40])، وابن رشد الحفيد([41])، والقاضي الباجي ([42])، وابن قدامة ([43])، والعمراني([44]) ، والماوردي ([45])وابن حجر([46])، وجماعة من فقهاء المالكية ([47]) والشافعية ([48])والحنابلة .
ومن نصوصهم في ذلك:
1- قول القاضي عبدالوهاب:" وذهب ابن جرير الطبري إلى أن المرأة يجوز أن تكون حاكماً على الإطلاق، في كل ما يجوز أن يحكم فيه الرجل" ([49]).
2- قول الباجي في المنتقى شرح الموطإ:" وقال محمد بن الحسن، ومحمد بن جرير الطبري يجوز أن تكون المرأة قاضية على كل حال" ([50]).
3- وقال العمراني في البيان:"وقال ابن جرير: يجوز أن تكون المرأة قاضية في جميع الأحكام، كما يجوز أن تكون مفتية" ([51]).
4- وقال الماوردي في الحاوي الكبير:" أما المرأة فلا يجوز تقليدها، وجوزه ابن جرير الطبري،كالرجل" ([52]).
5- وقال ابن رشد الجد في المقدمات الممهدات:" وقال محمد بن الحسن، ومحمد بن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة قاضية على كل حال" ([53]).
6- وقال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد:" قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شيء" ([54]).
7- وكذا نقله ابن جزي الكلبي في القوانين الفقهية، فقال:"وأجاز أبو حنيفة قضاء المرأة في الأموال وأجازه الطبري مطلقاً" ([55]).
والحقيقة أنني لم أجد بعد طول بحث فيما بين يدي من كتب الإمام ابن جرير الطبري قولاً له في هذه المسألة، لكنّ تواتر نقل هذا القول عنه يوحي بصحته، وإن كان بعض من نقل قوله ينقله بغير صيغة الجزم، كقول ابن قدامة:" وحُكي عن ابن جرير أنه لا تشترط الذكورية؛ لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية، فيجوز أن تكون قاضية" ([56]).
بل أنكر هذه النسبة أبو بكر بن العربي في تفسيره أحكام القرآن فقال :" ونقل عن محمد بن جرير الطبري إمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية؛ ولم يصح ذلك عنه؛ ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» . وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير" ([57]).
هذا هو نص كلام ابن العربي، فهل استند في إنكار هذه النسبة للطبري إلى مستند واضح أو هو ظن غالب بحسب ما توصل إليه؟ الذي يظهر أن إنكاره لهذه النسبة لم يكن عن دليل أو مستند، لأنه قال في النص السابق:"ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة"، وقال :" وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير"، مما يدل على أن ابن العربي انطلق من عدم تصحيح نسبة هذا القول إلى ظن غالب نتج من استبعاد أن يصدر مثل هذا القول من الإمام الطبري؛ لأنه عنده غير مقبول.
والغريب أن ابن العربي بعد هذا النقل مباشرة ذكر المناظرة التي جرت بين القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري، مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية ببغداد في مجلس السلطان الأعظم عضد الدولة، قال ابن العربي: "فماحل ونصر ابن طرار لما ينسب إلى ابن جرير، على عادة القوم التجادل على المذاهب، وإن لم يقولوا بها؛ استخراجاً للأدلة، وتمرنا في الاستنباط للمعاني " ([58])مما يدل على أنه مستقر عند القوم تلك النسبة.
وكذلك فعل كثير من الفقهاء، ينسبون هذا القول لابن جرير الطبري، ولا يوافقونه، بل بعضهم يصفه بالشذوذ، ومخالفة الإجماع، كما قال الماوردي:" وشذ ابن جرير الطبري فجوز قضاءها في جميع الأحكام، ولا اعتبار بقول يرده الإجماع" ([59]).
ولهذا فالذي يترجح عندي صحة نسبة القول بجواز تولي المرأة القضاء لابن جرير الطبري، وذلك لكثرة من نقل هذا القول عنه، واشتهاره، ولأن من أنكر نسبته إليه، لم يبنِ ذلك على مستند علمي مقبول، بل هو ظن، والمثبت مقدم على النافي.
وأما نسبة هذا القول إلى الحسن البصري فقد ذكرها بعض فقهاء المالكية ([60]).
وأما ما نسب عن ابن القاسم من المالكية من القول بجواز ولا ية المرأة القضاء مطلقاً فهو ما ذكره بعض فقهاء المذهب المالكي، يوضح ذلك ما جاء في مواهب الجليل:" قال في التوضيح: وروى ابن أبي مريم عن ابن القاسم جواز ولاية المرأة، قال ابن عرفة، قال ابن زرقون: أظنه فيما تجوز فيه شهادتها، قال ابن عبد السلام: لا حاجة لهذا التأويل لاحتمال أن يكون ابن القاسم قال كقول الحسن، والطبري بإجازة ولايتها القضاء مطلقاً" ([61]).
ونقل ابن حجر في الفتح عن ابن التين القول بالجواز مطلقاً عن بعض المالكية، كما نقل عن ابن جرير ما يوافق مذهب أبي حنيفة فقال:" وخالف ابن جرير الطبري، فقال: يجوز أن تقضي فيما تقبل شهادتها فيه، وأطلق بعض المالكية الجواز" ([62])، والذي يظهر أن هذه النسبة غير دقيقة، لأن الأكثر من العلماء قد نقلوا عن ابن جرير الطبري إطلاق القول بجواز قضاء المرأة في كل شيء، وهو ما ذكره ابن حجر في الفتح – أيضاً – في موضع آخر([63]).
المبحث الثاني: دلالة النصوص في تولية المرأة القضاء.
لم يرد في القرآن الكريم أو السنة النبوية دليل خاص صريح في ولاية المرأة للقضاء نفياً أو إثباتاً، إنما وردت بعض النصوص العامة غير القطعية في دلالتها على حكم هذه المسألة، ومن هنا اختلفت وجهات نظر العلماء في دلالة تلك النصوص وإفادتها الحكم في هذه المسألة، وهذا عرض لأهم تلك الأدلة وأوضحها مما وقفت عليه، وقد جعلتها في مطلبين:
المطلب الأول: الأدلة النصية لمن يرى منع تولية المرأة القضاء.
المطلب الثاني: الأدلة النصية لمن يرى جواز تولية المرأة القضاء.
المطلب الأول: الأدلة النصية لمن يرى منع تولية المرأة القضاء:
استدل القائلون بمنع المرأة من ولاية القضاء بنصوص من الكتاب والسنة، هذه أهمها:
الدليل الأول:استدل الماوردي وغيره من فقهاء الشافعية على منع المرأة من تولي القضاء ([64])بقول الله تعالى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭼ ([65]).
ووجه الدلالة من الآية:أنها جعلت القوامة في الرجال دون النساء، وإذا كان الرجل قيّماً على المرأة بمعنى أنه رئيسها وكبيرها والحاكم عليها، فكيف تكون المرأة حاكمة على الرجل، هذا ما لا يتناسب والآية الكريمة.
يقول الماوردي بعد أن أورد هذه الآية دليلاً على منع المرأة من تولي القضاء:" يعني: في العقل والرأي، فلم يجز أن يقمن على الرجال" ([66]).
وجاء في تفسير القاسمي: "واستدل بها على أن المرأة لا تجوز أن تلي القضاء كالإمامة العظمى؛ لأنه جعل الرجال قوامين عليهن، فلم يجز أن يقمن على الرجال" ([67]).
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً:أن المقصود بالقوامة في الآية الكريمة هي قوامة الرجل الذي هو الزوج على المرأة في بيته وشؤونه الأسرية، فالرجل هو قيّم البيت والمسؤول عنه، أما خارج حدود الأسرة فالمرأة قد تكون مسؤولة في أي موقع، وتتولى إدارة أي جهة، ولا يتعارض ذلك مع قوامة الرجل عليها في بيته، يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري :" يعني بقوله جل ثناؤه: (الرجال قوّامون على النساء)، الرجال أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم (بما فضّل الله بعضهم على بعض)، يعني: بما فضّل الله به الرجال على أزواجهم: من سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهنّ، وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ، ولذلك صارُوا قوّامًا عليهن، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن" ([68])، و يقول الزجاج عند بيان معنى الآية:" الرجُلُ قيِّم على المرأَة فيما يجب لها عليه، فأمَّا غير ذلك فلا" ([69]).
فالآية على هذا لم تتعرض لولاية المرأة على شأن آخر خارج بيتها، بل المقصود –كما ذكر الطبري وغيره- ولاية الأزواج وقوامتهم على زوجاتهم، ومما يدل على ذلك سياق الآية فهي في إصلاح البيوت ورعاية الزوجات وتأديبهن عند الترفع والنشوز، كما في قوله سبحانه في سياق الآية:ﭽ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭼ ([70]).
ثانياً :مما يدل على أن هذا المعنى هو المقصود بالآية، وأنها لم ترد في شأن الولايات أن عامة المفسرين لم يذكروا شيئاً من ذلك عند تفسيرهم لهذه الآية، فقد راجعت أكثر كتب التفسير – التي بين يدي- فلم أجد من ذكر أن هذه الآية فيها دلالة على منع المرأة من تولي القضاء([71]). إنما يذكر بعضهم أن ذلك من أنواع التفضيل في قوله سبحانه: ﭽﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭼ ([72])،كما قال ابن كثير:" بما فضل الله بعضهم على بعض: أي لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري، من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، وكذا منصب القضاء وغير ذلك" ([73]).
ومن أجمع ما قرأت في معنى الآية ما نقله أبو حيان في تفسيره عند هذه الآية حيث ذكر تفضيل جنس الرجال على جنس النساء، بدلالة قوله تعالى: (بما فضل الله بعضهم على بعض)، قال:"هذا إخبار عن الجنس لم يتعرض فيه إلى اعتبار أفراده، كأنه قيل:هذا الجنس قوام على هذا الجنس، وقال ابن عباس: قوامون مسلطون على تأديب النساء في الحق، ويشهد لهذا القول طاعتهن لهم في طاعة الله، وقوام: صفة مبالغة، ويقال: قيام وقيم، وهو الذي يقوم بالأمر ويحفظه،.... والمعنى: أنهم قوامون عليهن بسبب تفضيل الله الرجال على النساء، هكذا قرروا هذا المعنى، قالوا: وعدل عن الضميرين فلم يأت بما فضل الله عليهن لما في ذكر بعض من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير، فرب أنثى فضلت ذكراً، وفي هذا دليل على أن الولاية تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة، وذكروا أشياء مما فضل به الرجال على النساء على سبيل التمثيل، فقال الربيع: الجمعة والجماعة، وقال الحسن: النفقة عليهن. وينبو عنه قوله: وبما أنفقوا. وقيل: التصرف والتجارات. وقيل: الغزو، وكمال الدين، والعقل. وقيل: العقل والرأي، وحل الأربع، وملك النكاح، والطلاق، والرجعة، وكمال العبادات، وفضيلة الشهادات، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، والديات، والصلاحية للنبوة، والخلافة، والإمامة، والخطابة، والجهاد، والرمي، والأذان، والاعتكاف، والحمالة، والقسامة، وانتساب الأولاد، واللحى، وكشف الوجوه، والعمائم التي هي تيجان العرب، والولاية، والتزويج، والاستدعاء إلى الفراش، والكتابة في الغالب، وعدد الزوجات، والوطء بملك اليمين" ([74]).
ولهذا فالذي يظهر أن غاية ما تدل عليه هذه الآية هو تفضيل جنس الرجال على جنس النساء، وأن الرجل هو المسؤول والقيم على المرأة، أما تولي المرأة ولاية خاصة أو ولاية عامة فلم تتعرض له هذه الآية الكريمة، إلا من جهة تفضيل الجنس، وتفضيل الجنس قد دلت عليه أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، فللرجال على النساء درجة ([75])، وهي بكل حال لا تدل على تفضيل بعض أفراد الجنس على بعض.
الدليل الثاني:استدل أكثر الفقهاء ([76])ممن يرى منع المرأة من تولي القضاء بحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الجمل، بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل فارس مَلَّكوا عليهم بنت كسرى، قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" ([77]).
ووجه الدلالة من الحديث:ظاهرة، حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم الفلاح لمن يولي أمره إلى امرأة، وهذا وإن كان خبراً فهو بمعنى الإنشاء؛ فهو بمعنى لا تولوا المرأة أمركم لأنكم لن تفلحوا، وعدم الفلاح دليل الضرر والفشل والفساد([78])، وبهذا يتبيّن بأن تولية المرأة الولايات والتي منها ولاية القضاء ، عنوان الفشل للمجتمع والأمة ([79]).
قال الشوكاني:" فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقوم توليتها؛ لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب" ([80]).
وقد أجيب عن الاستدلال بهذا الحديث بعدة أجوبة، منها:
أولاً:أن الحديث وارد في الولاية العامة، التي هي الخلافة العظمى، أما غير ذلك من الولايات كالقضاء فلم يتعرض له الحديث.
يقول ابن حزم :" فإن قيل: قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة»، قلنا: إنما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمر العام الذي هو الخلافة، برهان ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: «المرأة راعية على مال زوجها وهي مسئولة عن رعيتها» ([81]) ، وقد أجاز المالكيون أن تكون وصية ووكيلة، ولم يأت نص من منعها أن تلي بعض الأمور" ([82]).
وقد يستدل أيضاً على أن المقصود الولاية العامة أو الرئاسة أو الملك ما ورد في سبب الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك "لما بلغه أن أهل فارس مَلَّكوا عليهم بنت كسرى" ، كما ورد في نص الحديث.
وقد يستدل – أيضاً- على ذلك بما ورد في ألفاظ الحديث، فإن فيه قوله صلى الله عليه وسلم : "ولوا" ، والولاية إذا أطلقت من غير تحديد انصرفت إلى الخلافة والملك، وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرهم" ، فإن الظاهر من هذا النص أمرهم كله، ولا يكون ذلك إلى بإسناد الخلافة العظمى أو الملك؛ لأن ولاة الأمر هم أصحاب الإمارة والخلافة والملك، ومما يدل على ذلك ما جاء في بعض روايات الحديث وألفاظه ففي رواية الإمام أحمد في مسنده بلفظ: "أسندوا أمرهم إلى امرأة" ([83])وبلفظ: "تملكهم امرأة" ([84]) وبلفظ: "ما أفلح قوم تلي أمرهم امرأة" ([85]).
وبهذا يكون المقصود بهذا الحديث ولاية الناس في الملك أو الرئاسة، وتلك أوسع من دائرة القضاء التي هي نوع من أنواع الولايات.
وبهذا لا يتبقى في هذا الحديث إلا قياس منع تولية المرأة القضاء على المنع من توليتها الولاية العامة أو الملك، وسيأتي في المبحث الثالث مدى صحة هذا القياس ([86]).
ثانياً:أن هذا الحديث وارد على طريق الحكاية والخبر، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن أولئك القوم بخصوصهم بأنهم لن يفلحوا إذ تولت أمرهم امرأة.
لكن يمكن أن يناقش هذا:بأن لفظ الحديث وإن كان بصيغة الخبر إلا أنه بمعنى الإنشاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم كأنه ينهى عن تولية المرأة شأناً عاماً، وإلا فإن النتيجة عدم الفلاح، ثم إن كونها وردت في خصوص قوم كسرى فإن هذا لا يمنع أن يأخذ غيره العبرة والعضة من حالهم، وقد تقرر في علم الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم نتيجة عدم الفلاح على سبب هو تولي المرأة أمرهم، وهذه النتيجة تحصل كلما حصل سببها مع أي قوم ([87]) .
ثالثاً:أجاب بعض المعاصرين عن حديث أبي بكرة رضي الله عنه بأنه حديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه من رواية أبي بكرة رضي الله عنه، وقد انفرد به، وهو ممن جلدهم عمر رضي الله عنه في حد القذف، فروايته غير مقبولة، لأن من جلد بحد القذف موصوف بالفسق والكذب، فينبغي أن يضم هذا الحديث إلى الأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ([88]) .
لكن هذا المسلك: الذي سلكه بعض المعاصرين مسلك وخيم، وهو في الحقيقة مزلّة قدم، إذ كيف يُقدح في أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُتهم؟ وكيف يُقدح فيما في صحيح البخاري رحمه الله وقد اتفق العلماء سلفاً وخلفاً على قبوله؟
ولقد أجمع علماء المسلمين سلفاً وخلفاً طيلة أربعة عشر قرناً وزيادة على قبول مرويات أبي بكرة رضي الله عنه، وأثبتها علماء الحديث في دواوين السّنّة، وأما جلد أبي بكرة رضي الله عنه في شهادته على المغيرة رضي الله عنه بالزنى، وكونه لم يتب، فذلك لا تأثير له في قبول روايته، لأنَّه لم يكن قاذفاً، وإنما كان شاهداً، وفرق بين الشاهد في الزنى والقاذف فيه([89]) ، يقول ابن قدامة: "المحدود في القذف إن كان بلفظ الشهادة فلا يرد خبره؛ لأنَّ نقصان العدد ليس من فعله، ولهذا روى الناس عن أبي بكرة، واتفقوا على ذلك، وهو محدود في القذف، وإن كان بغير لفظ الشهادة فلا تقبل روايته حتى يتوب" ([90]) .
الدليل الثالث:استدل بعض الفقهاء على منع تولي المرأة القضاء ([91])بحديث بريدة بن الحصيب يرفعه: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" ([92]).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: قوله فيه :" فرجل ... ورجل"، فإن هذا يفيد حصر القضاء في الرجال، ويخرج بمفهومه النساء، فهن لا يصلحن للقضاء([93]).
يقول الشوكاني:"واستدل المصنف –أيضاً- على ذلك بحديث بريدة المذكور في الباب لقوله فيه: " رجل ورجل " فدل بمفهومه على خروج المرأة" ([94]).
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً:أن ذكر الرجل في الحديث لم يقصد به الحصر أو التخصيص، وعدم صلاحية غيره للقضاء، إنما ورد ذكره على سبيل الغالب، فإن الغالب في القضاة أنهم من الرجال، أما قضاء المرأة فلم يتعرض له الحديث، فقوله "رجل" لا مفهوم له يخرج المرأة، كما في مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل... الحديث" ([95])وقوله :"ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم...الحديث"([96])، وقوله صلى الله عليه وسلم:" يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل، تحمل حمالة ...الحديث" ([97])، فإن قوله :" رجل " في هذه الأحاديث وأمثالها لا مفهوم لها يخرج المرأة، ومثل ذلك حديث القضاة ثلاثة المذكور.
ثانياً:أن عامة شراح الحديث من أهل العلم الذين ذكروا دلالات الحديث وفوائده إنما ذكروا إفادة الحديث منع الجاهل ومن لا يحسن القضاء منه، ولم يذكروا في دلالة حديث بريدة إفادة حصر القضاء في الرجال، وأن المرأة لا تتولى القضاء([98])، إنما ذكره الشوكاني بناء على ذكر المصنف صاحب المنتقى مجد الدين أبو البركات ابن تيمية حيث أورد الحديث تحت "باب المنع من ولاية المرأة والصبي، ومن لا يحسن القضاء، أو يضعف عن القيام بحقه"، فذكر الشوكاني – كما سبق-أن المصنف استدل به على منع المرأة من القضاء، والحقيقة أن ما ذكره الشوكاني هنا محل نظر، حيث إن المصنف قد أورد تحت الباب المذكور عدة أحاديث، منها حديث أبي بكرة رضي الله عنه السابق في منع المرأة من الولاية، ثم حديث منع إمارة الصبيان، ثم الحديث المذكور، والظاهر أن المصنف أراد الاستدلال به على منع من لا يحسن القضاء، وهو الترتيب والتدرج المنطقي لما ذكره المصنف في عنوان الباب، فإنه قال:"باب المنع من ولاية المرأة والصبي، ومن لا يحسن القضاء، أو يضعف عن القيام بحقه"، وقد يكون المصنف أراد ما ذكره الشوكاني، لكنّ وجه ذلك -كما سبق - بعيد.
وكذلك فإن عامة الفقهاء الذين استدلوا بهذا الحديث في شروط القضاء استدلوا به على اشتراط العلم أو الاجتهاد في القاضي، مع ذكر بعضهم لشرط الذكورة حينئذ، ولم أطلع في كتب الفقهاء على من استدل بهذا الحديث على شرط الذكورة في القاضي، أو منع المرأة من تولي القضاء، غير الزركشي من فقهاء الحنابلة ([99])، ولو كان الحديث حجة لما أعرض عن الاستدلال به عامة أهل العلم مع قرب ذكره في شروط القضاء.
الدليل الرابع:استدل بعض أهل العلم ([100])بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: «يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار» فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» ، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» قلن: بلى، قال: «فذلك من نقصان دينها» ([101]).
لاستكمال القراءة يرجى تحميل ملفات الكتاب
word أو pdf
التفاصيلالمقدمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، جاهد في الله حق جهاده، ونصح للأمة غاية النصح، ولم يسأل على ذلك من أحد أجراً، فاللهم اجزه عنا وعن أمة محمد خير ما جزيت نبياً عن أمته، وارض اللهم عن آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
لقد احتاج الناس في هذا العصر أكثر من أي عصر مضى إلى بيان العلماء وفتاواهم، وأضحت الفتوى الشرعية في ظل التغيرات المتسارعة ضرورة حياتية، لا يمكن أن يقف دورها إلا إذا أوقفنا عجلة الحياة وتطورها، لهذا كثرت اليوم على مستوى العالم الإسلامي هيئات الإفتاء الرسمية وغير الرسمية، وكثرة - أيضاً - برامج الإفتاء في الإذاعة والتلفاز، وفي مواقع الشبكة العنكبوتية العالمية، وعبر وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي.
ومع كثرة هيئات الإفتاء وبرامج الفتوى وجدت هذه الجهات حاجتها أحياناً إلى أن تبذل أموالاً للمفتين من أهل العلم، هذه الأموال تختلف في أسبابها وأغراضها، وهي لأجل ذلك تختلف في أحكامها، إباحة أو تحريماً، أو كراهة تنزيه أحياناً.
وأخذ المفتي للمال مقابل الفتوى ليست مسألة جديدة، بل قد ذكرها الفقهاء والأصوليون في كتبهم، لكنها اليوم أخذت بعداً آخر من خلال كثرة صور الفتوى واختلافها تبعاً لاختلاف الوسائل التي تجري فيها.
وقد حاولت أن أقف على بحث يجلّي هذه الأحكام فلم أظفر -بعد طول بحث- بكتابة مستقلة فيها، لذلك عزمت على الكتابة حول هذه الأحكام، مستعيناً بالله تعالى، مسترشداً بما كتبه الأئمة المتقدمون، في محاولة لجمع ما تيسر من صور المعاوضة على الفتوى قديماً وحديثاً.
ولا ينبغي أن يفهم من هذه الكتابة التقليل من شأن العلماء والمفتين أو لمزهم، حاشا لله، بل مكانة العلماء الربانين لا يماري فيها أحد من المسلمين، فهم ورثة الأنبياء بعلمهم، وهم أهل النصح والرفق والرحمة، وهم حملة لواء كل صلاح وفضيلة، وما يأخذه العالم والمفتي عوضاً عما يقوم به من عمل في الإفتاء في غالبه ليس فيه أدنى شبهة، وإنما التحريم أو الكراهة تكون في بعض صور المعاوضة على الفتوى، فالبحث يقصد تجلية تلك الصور وبيانها، لعل الله أن ينفع بها العلماء والمفتين والمقدمين لتلك الأموال.
وقد سرت في تقسيم هذا البحث وفق الخطة التالية:
التمهيد، وفيه تعريف الفتوى ، ومكانتها، وآدابها.
المبحث الأول: أرزاق الدولة على المفتين.
المبحث الثاني: أخذ الأجرة على الفتوى.
المبحث الثالث : الهدية على الفتوى.
المبحث الرابع: صور وتطبيقات معاصرة للمعاوضة على الفتوى.
والله المسؤول أن يصلح النية والعمل، وأن يكتب لنا وللمسلمين التوفيق، وأن يجزي كل من سعى لنشر العلم وبيان الحق أعظم الجزاء، وأن يجعلنا جميعاً أنصاراً لدينه وشريعته، وصلى الله وسلم على خير خلقه نبينا وإمامنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد في تعريف الفتوى ، ومكانتها، وآدابها.
أولاً: تعريف الفتوى.
الفتوى لغة :الفتوى هي اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوى والفتاوي، يقال:أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألة، والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام، والاستفتاء طلب الجواب عن الأمر المشكل، وقد جاءت تصريفات لفظ الفتوى في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قول الله سبحانه حكاية عن ملكة سبأ: ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﭼ([1])، وقوله سبحانه حكاية عن الملك في قصة يوسف: ﭽﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ([2])، وقوله سبحانه:ﭽ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ([3])، وقوله سبحانه:ﭽ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒﭼ([4])، وقوله سبحانه:ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗﭼ([5]).([6]).
الفتوى اصطلاحاً:ليس معنى الفتوى الاصطلاحي ببعيد عما يذكره أهل اللغة، كما هو استعمال القرآن الكريم إلا أن الفتوى في القرآن جاءت بمعنى البيان وهو أوسع من الاستعمال الاصطلاحي الخاص ببيان الحكم الشرعي للوقائع والنوازل التي يسأل عنها.
وقد عرفت الفتوى بعدة تعريفات منها:
1 - أن الفتوى : الإخبار عن حكم الشرع لا على وجه الإلزام.
والتقييد بقوله :"لا على وجه الإلزام" ليخرج القضاء، فإنه إخبار بالحكم الشرعي وإلزام به.([7])
2 - وقيل في تعريفها: إنها إخبار عن حكم الله تعالى عن دليل شرعي، لمن سأل عنه، بأمر نازل.
وإنما قال:" لمن سأل عنه، بأمر نازل"؛ لأنَّ الإخبار بحكم الله تعالى عن غير سؤال إرشاد، والإخبار به عن سؤال في غير أمر نازل تعليم([8]).
ثانياً: مكانة الفتوى، وموقعها من الدين.
منذ فجر الإسلام الأول إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة وأهل الإسلام بحاجة إلى الفتوى، حاجتهم إليها هي حاجتهم إلى دينهم، إذا كيف يتبّن لهم أمر دينهم في الوقائع والنوازل والقضايا والمستجدات إلا عن طريقها، وذلك حتى يعبدوا الله على نور وبصيرة، ويقيموا شرع الله في علاقاتهم ومعاملاتهم، ولذا قال ابن القيم:" وحاجة الناس إليهم-يعني الفقهاء والمفتين- أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب" ([9]).
الفتوى في الإسلام لها شأن عظيم، وهي إحدى وظائف الأنبياء، ولذلك فالمفتون في هذه الأمة خلفاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى، يقول الشاطبي:" المفتي هو القائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم" ([10]).
ويقول الإمام النووي: "اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل؛ لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ، ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله - تعالى -، وروينا عن ابن المنكدر قال: (العالم بين الله - تعالى - وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم" ([11]).
ويقول ابن القيم مبيّناً عظيم أمر الفتوى، ومنزلتها وشرفها: "وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعدَّ له عدَّته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال - تعالى -: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) وكفى بما تولاه الله - تعالى - بنفسه شرفاً وجلالة" ([12]).
ثانياً: آداب الفتوى، وشروطها.
ذكر الفقهاء جملة من الشروط التي لا بد أن تتوفر في المفتي، وذكروا أيضاً آداباً لها، وهذه إشارة موجزة لتلك الشروط والآداب رأيت أن أضعها بين يدي هذا الموضوع.
اتفق الفقهاء على أنه لا يشترط في المفتي الحرية، ولا الذكورية، ولا النطق، فتصح فتيا العبد والمرأة والأخرس ويفتي بالكتابة أو بالإشارة المفهمة ([13]).
وكذلك لم يشترط الفقهاء في المفتي البصر، فتصح فتيا الأعمى([14])، أما السمع، فاشترطه بعض الحنفية، فلا تصح فتيا الأصم عندهم، قال ابن عابدين: "لا شك أنه إذا كتب له السؤال وأجاب عنه جاز العمل بفتواه، إلا أنه لا ينبغي أن ينصب للفتوى، لأنه لا يمكن كل أحد أن يكتب له" ([15]).
أما ما يشترط في المفتي فهي أمور يمكن إجمالها في الآتي:
1 – الإسلام .
2 – العقل.
3 - البلوغ.
4 – العدالة، واشتراطها محل خلاف، وجمهور العلماء عليه؛ لأن الإفتاء يتضمن الإخبار عن الحكم الشرعي، وخبر الفاسق لا يقبل، واستثنى بعضهم إفتاء الفاسق نفسه فإنه يعلم صدق نفسه ([16])، وذهب بعض الحنفية إلى أن الفاسق يصلح مفتيا؛ لأنه يجتهد لئلا ينسب إلى الخطأ ([17])، وقال ابن القيم: "تصح فتيا الفاسق، إلا أن يكون معلناً بفسقه وداعياً إلى بدعته، وذلك إذا عم الفسوق وغلب، لئلا تتعطل الأحكام، والواجب اعتبار الأصلح فالأصلح" ([18]).
وأما المبتدعة، فإن كانت بدعتهم مكفرة أو مفسقة لم تصح فتاواهم، وإلا صحت فيما لا يدعون فيه إلى بدعهم، قال الخطيب البغدادي: تجوز فتاوى أهل الأهواء ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه، وأما الشراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة ويسبون السلف فإن فتاويهم مرذولة وأقاويلهم غير مقبولة([19]).
5 – الاجتهاد، ومفهوم هذا الشرط: أن فتيا العامي والمقلد الذي يفتي بقول غيره لا تصح، وقد ذكر ابن القيم في فتيا المقلد ثلاثة أقوال، أصحها هو الجواز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، قال ابن القيم: وهو أصح الأقوال، وعليه العمل ([20]).
وقد نقل غير واحد من الأصوليين عن ابن دقيق العيد قوله: "توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم، أو استرسال الخلق في أهوائهم، فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلاً متمكناً من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به، لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا" ([21]).
6- جودة القريحة: ومعنى ذلك أن يكون كثير الإصابة، صحيح الاستنباط، فلا تصلح فتيا الغبي، ولا من كثر غلطه، بل يجب أن يكون بطبعه شديد الفهم لمقاصد الكلام ودلالة القرائن، صادق الحكم، قال النووي: "شرط المفتي كونه فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح النظر والاستنباط" ([22]).
7 - الفطانة والتيقظ: يشترط في المفتي أن يكون متيقظاً ([23])، قال ابن عابدين: "شرط بعضهم تيقظ المفتي، قال: وهذا شرط في زماننا، فلا بد أن يكون المفتي متيقظاً يعلم حيل الناس ودسائسهم، فإن لبعضهم مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام وتصوير الباطل في صورة الحق، فغفلة المفتي يلزم منها ضرر كبير في هذا الزمان" ([24]).
ومما يتعلق بهذا ما نبه إليه بعض العلماء من أنه يشترط في المفتي أن يكون على علم بالأعراف اللفظية للمستفتي، لئلا يفهم كلامه على غير وجهه، وهذا إن كان إفتاؤه فيما يتعلق بالألفاظ كالأيمان والإقرار ونحوها ([25]).
هذه هي شروط الفتيا إجمالاً ، وقد نبه بعض الفقهاء إلى خصال مكملة للفتوى منها ما نقله ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال: "لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور، وأن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، وأن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته، والكفاية وإلا مضغه الناس، ومعرفة الناس" ([26]).
كما ذكر العلماء أن من أهم صفات المفتي عدم التعلق بالدنيا، وأنه ينبغي له أن لا يشين علمه وتعليمه بالطمع، فلقد جاء في منثور الحكم "أن الطمع يذهب الحكمة من قلوب العلماء" ([27]).
وقد لخص أحد أهل العلم الأجلاء آداب المفتي فقال:"المفتي لا بد أن يكون عالماً مستبصراً، ذا ديانة، ومن شروط الكمال أن يكون ذا أناة وتؤدة، متوخياً الوسطية، بصيراً بالمصالح، وعارفاً بالواقع، متطلعاً إلى الكليات، ومطلعاً على الجزئيات، موازناً بين المقاصد والوسائل والنصوص الخاصة، ذلك هو الفقيه المستبصر" ([28]).
المبحث الأول: أرزاق الدولة على المفتين.
في هذا المبحث مطلبان :
المطلب الأول: معنى الرزق، وأحكامه.
المطلب الثاني: أخذ الرزق على الفتوى.
المطلب الأول: معنى الرزق، وأحكامه.
أولاً : معنى الرزق:
الرزق لغة:بفتح الراء العطاء، مصدر قولك رزقه الله يرزقه، والرِزق بالكسر ما ينتفع به، فهو اسم والمصدر الحقيقي الرزق بالفتح، ويجوز أن يوضع موضع المصدر، وقيل : الرزق: اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان ويصل إلى الجوف ويتغذى به، والأرزاق نوعان : ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب كالمعارف والعلوم، يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علماً ([29]).
والرزق عند الفقهاء يعرف بعدة تعريفات منها:
1 - أنه: ما يفرض في بيت المال بقدر الحاجة والكفاية مشاهرة أو مياومة ([30]).
2 - وقيل: الرزق هو ما يجعل لفقراء المسلمين إذا لم يكونوا مقاتلين([31]).
3 – وقيل : الرزق ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين([32]).
وعند تأمل هذه التعريفات نجد ما يلي:
1 - هناك من الفقهاء من فرّق بين العطاء والرزق، فجعل الرزق خاص بالمحتاجين من الفقراء ومن يقوم بمصالح المسلمين غير المقاتلة، وخص العطاء بالمقاتلة فقط ([33])، وعند بعضهم تفريق آخر بين الرزق والعطاء من جهة وقت دفع المال، بأن العطاء ما يخرجه الإمام كل عام، والرزق ما يخرجه كل شهر ([34]).
لكن إطلاق غالب الفقهاء الرزق على ما يفرض من بيت المال للمقاتلة ولغيرهم، كالقضاة والمفتين والأئمة والمؤذنين([35]).
2 – غالب تعريفات الفقهاء للرزق تفيد أنه يكون دفعه من بيت المال، مع أن الرزق ليس خاصاً ببيت المال، بل قد يكون الرزق من جهة أخرى كالأوقاف والجهات الخيرية، أو حتى الأشخاص المتبرعين به، وقد ذكر ذلك بعض الفقهاء فنقل النووي في مقدمة المجموع عن الصيمري والخطيب قولهما:" لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقاً من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز" ([36]).
وعلى هذا فيمكن أن يكون التعريف المختار للرزق هو:
"المال المفروض إعانة لمن يقوم بمصالح المسلمين"
ثانياً: أحكام الرزق الخاصة:
ذكر الفقهاء عدة أحكام للأرزاق منها:
1 - أنه يجوز في الأرزاق الدفع والقطع والتقليل والتكثير والتغيير؛ لأن الأرزاق من باب المعروف وتصرف بحسب المصلحة، وقد تعرض مصلحة أعظم من تلك المصلحة فيتعين على الإمام الصرف فيها ([37]).
2 - أرزاق بيت المال، التي تجريها الدولة ليست إجارة، لذلك لا يشترط فيها مقدار من العمل، ولا أجل تنتهي إليه الإجارة، وليس مقدرا ًكل شهر بكذا، وكل سنة بكذا حتى تكون إجارة، بل هو إعانة على الإطلاق ([38]).
3 – يجوز أخذ الرزق للإعانة على الطاعة مما يتعدى نفعه إلى جميع المسلمين من المصالح، كالقضاء والفتيا والأذان والإمامة وتعليم القرآن وتدريس العلم النافع من الحديث والفقه، وتحمل الشهادة وأدائها، كما يدفع منه أرزاق المقاتلة وذراريهم لأن ذلك من المصالح العامة ([39])، قال الإمام الجويني في ذكره الأصناف التي تعطى من الأرزاق:"الصنف الثاني: الذين انتصبوا لإقامة أركان الدين، وانقطعوا بسبب اشتغالهم واستقلالهم بها عن التوسل إلى ما يقيم أودهم ويسد خلتهم، ولولا قيامهم بما لابسوه لتعطلت أركان الإيمان، فعلى الإمام أن يكفيهم مؤنهم حتى يسترسلوا فيما تصدروا له بفراغ جنان، وتجرد أذهان، وهؤلاء هم القضاة والحكام والقسام والمفتون والمتفقهون، وكل من يقوم بقاعدة من قواعد الدين يلهيه قيامه بها عما فيه سداده وقوامه" ([40]).
4 - أن ما يؤخذ من بيت المال من رزق للإعانة على الطاعة لا ينقص أجر الطاعة ولا يقدح في الإخلاص، بل من عمل لله أثيب وما يأخذه رزق للإعانة، قال ابن تيمية:"أما ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة، بل رزق للإعانة على الطاعة، وأخذ الرزق على العمل لا يخرجه عن كونه قربة، ولا يقدح في الإخلاص؛ لأنه لو قدح ما استحقت الغنائم وسلب القاتل" ([41]).
وبهذا يظهر أن الرزق يختلف عن الإجارة في كثير من أحكامه، فلا يشترط فيه ما يشترط في الإجارة من تحديد المدة أو العمل أو مقدار الأجرة ([42]).
المطلب الثاني : أخذ الرزق على الفتوى:
تقدمت الإشارة إلى أن أرزاق المفتين هي أحد مصارف بيت المال؛ لتعلقها بمصلحة عموم المسلمين، ولكن عند تأمل أقوال الفقهاء نجد أنهم لم يتفقوا على هذا المبدأ بإطلاق، وإنما جعلوا لذلك قيوداً، ولهذا فيمكن أن يكون أخذ الرزق على الفتيا على حالين:
الحالة الأولى:أن يكون المفتي محتاجاً للمال، وليس له كفاية، ولم يتعين عليه أن يفتي، ففي هذه الحالة اتفق فقهاء الحنفية ([43]) والمالكية ([44]) والشافعية ([45])والحنابلة ([46])على جواز أخذ المفتي للرزق من بيت المال.
ويدل لهذا الاتفاق:
أن منصب الإفتاء من المناصب التي يحتاجها العامة، فهو في معنى الإمامة والقضاء، فالتفرغ لهذا العمل والانقطاع له من حاجات المسلمين ومصالحهم العامة، وبيت المال معد لمصالح المسلمين العامة، والمفتي قد فرّغ نفسه لعمل من أهم أعمال المسلمين، فثبت حق كفايته من بيت المال([47]).
الحالة الثانية:أن لا يكون المفتي محتاجاً، ولم تتعين عليه الفتوى، فأخذ الرزق للمفتي في هذه الحالة محل خلاف بين أهل العلم، وسبب الخلاف عند بعض الفقهاء ما ذكره ابن القيم بقوله:" وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة وعامل اليتيم، فمن ألحقه بعامل الزكاة قال: النفع فيه عام، فله الأخذ، ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ" ([48]).
وهذا سياق قولي الفقهاء في هذه المسألة:
القول الأول: عدم جواز أخذ الرزق للمفتي إذا لم يكن محتاجاً، أو في حال تعيّنت عليه الفتوى، وقد ذكر هذا بعض فقهاء الحنفية ([49]) والمالكية ([50])وهو الأصح في مذهب الشافعية ([51])والمشهور من مذهب الحنابلة ([52]).
أدلة هذا القول:
أولاً : قياس المفتي على ولي اليتيم، فإذا كان محتاجاً أخذ وإلا لم يجز له الأخذ، قال الله تعالى: ﭽﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﭼ([53])،وإنما صح القياس لأن كلاً منهما منتصباً لمعاملة الرعية بالأحظ لهم ([54]).
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال: بأن هذا القياس قياس مع الفارق، فإنه وإن صح تنزيل الراعي والإمام منزلة ولي اليتيم كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه ([55])،إلا أن تنزيل المفتي بمنزلة ولي اليتيم غير وجيه، ذلك أن المفتي لا يرعى حقاً للرعية ينظر فيما هو الأصح فيها، بما في ذلك ما يؤتمن عليه من أموال، وإنما المفتي يجتهد في بيان ما يشكل على الناس في أمر دينهم فقط، فهما مفترقان من هذا الوجه، وأيضاً فإن ما يأخذه ولي اليتيم مال خاص للأيتام لا يجوز له التصرف فيه ولا النفقة منه إلا بما هو الأصلح لهم خاصة، وأما ما يأخذه المفتي من بيت المال فهو من جملة ما يأخذه كل عامل متفرغ لعمل المسلمين ومصالحهم.
ثانياً: أن الإفتاء إذا كان متعيّناً على المفتي، فإنه يأخذ الرزق على أدائه فرض عين عليه، يجب أداؤه بدون رزق ([56]).
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن تعيّن الفتوى على المفتي ووجوبها عليه لا يسقط حقه في بيت المال؛ لأن ما يأخذه المفتي من الرزق ليس عوضاً عن الفتوى، وإنما هو إعانة على هذه الطاعة، ولأنه قد فرغ نفسه لمصلحة المسلمين.
القول الثاني: جواز أخذ الرزق للمفتي مطلقاً، وإن كان غير محتاج، وإن تعيّنت عليه الفتوى، وهذا هو مقتضى إطلاق الحنفية ([57])، وقال به بعض المالكية ([58])، وهو قول عند الشافعية ([59])ووجه في مذهب الحنابلة ([60]).
أدلة هذا القول:
أولاً: قياس المفتي في جواز أخذه للرزق على عامل الزكاة، فإنه يأخذ مع الغنى، وذلك بالنظر إلى عموم الحاجة إلى المفتي وحصول المصلحة العامة به
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن هذا قياس مع وجود الفرق، من جهة أن عامل الزكاة مستأجر من جهة الإمام لجباية أموال المستحقين لها وجمعها فما يأخذه يأخذه بعمله، كمن يستأجره الرجل لجباية أمواله, وأما المفتي فإنه منتصب لبيان أحكام الشريعة للناس وتبليغها إليهم فهو مبلغ عن الله تعالى عز وجل بفتياه، والمبلغ عن الله تعالى لا يستحق عليهم شيئاً إلا إن كان محتاجاً فله من الفيء ما يسد حاجته وهذا لون وعامل الزكاة لون([61]).
ثانياً: أن للمفتي أخذ الرزق من بيت المال؛ لأن له فيه حقا على الفتيا، فجاز له أخذ حقه، وذلك أن الإفتاء من المصالح العامة للمسلمين والمفتي يقوم بهذه المصلحة ([62]).
ثالثاً: أن الحاجة داعية للقيام بمهمة الفتوى والتفرغ والانقطاع لها، وفرض رزق من بيت المال لمن انقطع لأجل ذلك واجب على الأئمة، وإلا تعطلت في الناس هذه المهمة العظيمة([63])، يقول الإمام الجويني في ذكره الأصناف التي تعطى من الأرزاق:"الصنف الثاني: الذين انتصبوا لإقامة أركان الدين، وانقطعوا بسبب اشتغالهم واستقلالهم بها عن التوسل إلى ما يقيم أودهم ويسد خلتهم، ولولا قيامهم بما لابسوه لتعطلت أركان الإيمان، فعلى الإمام أن يكفيهم مؤنهم حتى يسترسلوا فيما تصدروا له بفراغ جنان، وتجرد أذهان، وهؤلاء هم القضاة والحكام والقسام والمفتون والمتفقهون، وكل من يقوم بقاعدة من قواعد الدين يلهيه قيامه بها عما فيه سداده وقوامه" ([64]).
رابعاً :قياس المفتي في وجوب نفقته من بيت المال على القاضي، وقياسه -أيضاً - على الزوجة في حبسها نفسها لزوجها، قالوا :" لأن المفتين قد حبسوا أنفسهم لمصالح المسلمين لتعليمهم أحكام شريعتهم وما يأتونه ويذرونه في أقوالهم وأفعالهم، وما يتعلق به من مصالح دينهم ودنياهم، وذلك من أهم مصالحهم وأعمها، فكانت كفايتهم عليهم لقيام مصالحهم، أصله القاضي والزوجة على ما عرف" ([65]).
قال ابن حمدان :" فإن كان اشتغاله بها وبما يتعلق بها يقطعه عما يعود به على حاله فله الأخذ" ([66]).
الراجح من هذين القولين:
الذي يظهر من عموم الأدلة رجحان القول الثاني وهو جواز أخذ الرزق من بيت المال على الإفتاء مطلقاً، سواء كان المفتي محتاجاً أم غير محتاج، وسواء تعيّنت عليه الفتوى أم لم تتعيّن، أما أدلة القول الآخر فقد سبقت مناقشتها بما يكفي.
وحيث ترجح القول بالجواز فإنه ينبغي التنبيه إلى ما يلي:
أولاً :نص بعض أهل العلم على أن الورع للمفتي هو ترك الأخذ من أرزاق بيت المال، وأن الأولى له التبرع بالفتوى([67]).
فهل من الورع للمفتي ترك أرزاق الدولة؟ وهل الأخذ من رزق الدولة خلاف الورع؟
الحقيقة أن هذه المسألة تحتاج إلى شيء من التأمل، وأن إطلاق القول بذلك محل نظر؛
إذ كيف يجعل رزق المفتي المتفرغ لهذا العمل الجليل من بيت المال محل شبهة، مع أن عامة الفقهاء – كما تقدم- قد نصوا على حلّ هذا الرزق للمفتي لأجل كفايته وعياله !
فالمفتي الذي نصبه ولي الأمر كغيره من الناس له حاجاته ومصالحه، فعند تورعه عن الأخذ ربما يلحقه ضرر، وربما احتقره الناس ، ولهذا ذكر الإمام أحمد في صفات المفتي أنه لا بد أن يكون له كفاية وإلا مضغه الناس ([68]).
ولأنه ثبت في صحيح السنة جواز الأخذ مما يعطى من غير استشراف وسؤال، فقد روى عبد الله بن السعدي رضي الله عنه أنه قدم على عمر في خلافته، فقال له عمر: ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً، فإذا أعطيت العمالة كرهتها، فقلت: بلى، فقال عمر: فما تريد إلى ذلك، قلت: إن لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، قال عمر: لا تفعل، فإني كنت أردت الذي أردت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً، فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذه، فتموله، وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وإلا فلا تتبعه نفسك» ([69]).
فهذه الحادثة تدل على كمال عقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكمال فقهه، وكمال ورعه وفضله، فإنه تورع عن أخذ المال لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه بأمره، ثم أمر به عماله، عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا اختلف العلماء في هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ المال -كما في هذا الحديث - هل هو للوجوب أم للندب ؟ ([70]).
قال ابن بطال عند شرحه هذا الحديث:"وفيه أن ما جاء من المال الطيب الحلال من غير مسألة، فإن أخذه خير من تركه إذا كان ممن يجمل الأخذ منه، وفيه أن رد عطاء الإمام ليس من الأدب، لأنه داخل تحت عموم قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) فإذا لم يأخذه فكأنه لم يأتمر لله، فكأنه من سوء الأدب"([71]).
وقال في موضع آخر: "وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر فى العطاء: (خذه فتموله وتصدق به) فإنما أراد صلى الله عليه وسلم الأفضل والأعلى من الأجر؛ لأن عمر وإن كان مأجورًا بإيثاره بعطائه على نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته الصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل أن الصدقة بعد التمول أعظم أجرًا؛ لأن خلق الشح حينئذ مستول على النفوس، وفيه: أن أخذ ما جاء من المال من غير مسألة أفضل من تركه؛ لأنه يقع في إضاعة المال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك" ([72]).
وفي هذا المعنى يقول أبو الدرداء رضي الله عنه:" إن أحدكم يقول اللهم ارزقني وقد علم أن الله لا يخلق له ديناراً ولا درهماً، وإنما يرزق بعضكم من بعض، فإذا أعطي أحدكم شيئاً فليقبله، وإن كان غنياً فليضعه في أهل الحاجة من إخوانه، وإن كان فقيراً فليستعن به على حاجته ولا يرد على الله رزقاً رزقه" ([73]).
ولهذا السبب ذكر جماعة من العلماء أن الأفضل للمفتي ومن في حكمه ممن يقوم بعمل من مصالح المسلمين هو الأخذ من الرزق وعدم تركه، قالوا :"الآخذ أعون في العمل، وألزم للنصيحة من التارك؛ لأنه إن لم يأخذ كان عند نفسه متطوعاً بالعمل، فقد لا يجد جد من أخذ؛ ركوناً إلى أنه غير ملتزم، بخلاف الذي يأخذ فإنه يكون مستشعراً بأن العمل واجب عليه فيجد جده فيها" ([74]).
وقد نبه القرافي في الفروق إلى هذه المسألة مبيّنا ًالفرق في الورع بين أخذ الرزق والأجرة على الإمامة، وكلامه يصدق على الفتوى فقال:" وكثير من الفقهاء يغلظ في هذه المسألة فيقول إنما يجوز تناول الرزق على الإمامة؛ بناء على القول بجواز الإجارة على الإمامة في الصلاة، ويتورع عن تناول الرزق؛ بناء على الخلاف في جواز الإجارة، وليس الأمر كما ظنه؛ بل الأرزاق مجمع على جوازها؛ لأنها إحسان ومعروف وإعانة لا إجارة، وإنما وقع الخلاف في الإجارة؛ لأنه عقد مكايسة ومغابنة، فهو من باب المعاوضات ...والأرزاق ليس بمعاوضة ألبتة لجوازه في أضيق المواضع المانعة من المعاوضة وهو القضاء والحكم بين الناس فلا ورع حينئذ في تناول الرزق" ([75]).
وبهذا يظهر جواز أخذ الأرزاق التي تجريها الدولة على المفتين، سواء كان المفتي محتاجاً أو غير محتاج، وسواء تعيّنت عليه الفتوى أو لم تتعيّن، وذلك أن ما تعطيه الدولة من رزق للإعانة على هذه المهمة من أجل التفرغ لها، والجد والنشاط في بذل الوسع في سد هذه الثغرة المهمة في حياة المسلمين.
ثانياً:الواجب على حكومة الدولة المسلمة أن تقوم برعاية حق المفتين، وأن تجعل لهم من المخصصات ما يكون كافياً لهم، ولمن تحت أيديهم، وأن ترعى في ذلك مكانتهم بين الناس، حتى تغنيهم بذلك عن الاحتراف والتكسب الذي ربما صرفهم عن هذه المهمة الشريفة التي قلّ من يقوم بمثلها بين الناس، وقد نص غير واحد من أهل العلم على القول بوجوب رزق الدولة للمفتين، فنقل النووي عن الخطيب البغدادي قوله :"وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه للفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف، ويكون ذلك من بيت المال، ثم روى بإسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى كل رجل ممن هذه صفته مائة دينار في السنة" ([76]).
وجاء في كشاف القناع:"ويجب على الإمام أن يفرض من بيت المال لمن نصب نفسه لتدريس العلم والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن التكسب؛ لدعاء الحاجة إلى القيام بذلك، والانقطاع له، وهو في معنى الإمامة والقضاء" ([77]).
وفي البحر الرائق :" وعلى الإمام أن يفرض لمدرس ومفت كفايته" ([78]).
ثالثاً:نص جماعة من الفقهاء على أنه لو اتفق أهل البلد فجعلوا للمفتي رزقاً من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز ([79]).
وما ذكره الفقهاء هنا يعمل به في حال تعذر قيام الدولة المسلمة بواجبها تجاه المفتين، وكذلك في حال وجود المسلمين في بلاد غير إسلامية، فينبغي أن تقوم بهذا الواجب جمعيات خيرية أو مراكز علمية، أو مؤسسات وقفية وأهلية؛ لأنه من فروض الكفايات، حتى يتفرغ أهل الفتوى لعملهم في دراسة قضايا الناس المستجدة في تلك البلاد.
المبحث الثاني: أخذ الأجرة على الفتوى.
وفي هذا المبحث مطلبان:
المطلب الأول: أخذ الأجرة بسبب الفتوى.
المطلب الثاني: أخذ الأجرة بسبب تكاليف الفتوى.
المطلب الأول: أخذ الأجرة بسبب الفتوى.
المقصود هنا هو طلب المفتي الأجرة على الفتوى من المستفتي أو غيره مع عدم وجود أي تكاليف عليه، وإنما لمجرد أنه أفتاه بلسانه، أي من غير كتابة للفتوى، لأن من الفقهاء من فرّق في حكم أخذ الأجرة على الفتوى بين الفتوى باللسان والفتوى المكتوبة، وللفقهاء في حكم أخذ الأجرة على الفتوى غير المكتوبة، أو بعبارة أدق غير المكلفة على المفتي، سواء تعينت عليه الفتوى بأن كانت فرض عين، أو لم تتعين بأن وجد غيره وكانت في حقه فرض كفاية، للفقهاء في ذلك قولان:
القول الأول: جواز أخذ الأجرة على الفتوى إذا لم تتعين عليه، بأن كان الإفتاء في حقه فرض كفاية لوجود غيره ، وإلى هذا ذهب جماعة من فقهاء المالكية ([80]) والظاهرية ([81]).
دليل هذا القول:
أولاً :أن الفتوى إذا تعيّنت على المفتي بأن لم يكن بالبلد غيره فهي فرض عين عليه، وأخذ الأجرة حينئذ يعد من أكل المال بالباطل، لأن الطاعة المفترضة عليه لا بد من عملها فأخذه الأجرة على ذلك لا وجه له، وإذا لم تتعين عليه فأخذ الأجرة جائز، لأنها لم تتعين عليه([82]).
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن التوجيه بالمنع من أخذ الأجرة على الفتوى في حال كونها فرض عين مقبول، أما في حال كونها فرض كفاية فليس مقبولاً ، فليست العلة في المنع من أخذ الأجرة على الفتوى هي وجوبها عيناً على المفتي بل كونها عبادة وقربة وبلاغ عن الله، وبهذا يستوي فرض عين أو كفاية.
ثانياً :أن ما يقوم به المفتي للمستفتي الذي استأجره نفع يصل إلى المستأجر فجاز أخذ الأجرة عليه: كسائر المنافع ([83]).
القول الثاني: عدم جواز أخذ الأجرة على الفتوى مطلقاً، سواء تعين على المفتي الإفتاء أو لم يتعين، وسواء كان محتاجاً أو غير محتاج، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، فهو قول الحنفية([84]) وبعض المالكية ([85]) والشافعية([86]) والحنابلة ([87]).
أدلة هذا القول:
أولاً:استدلوا بقوله تعالى: ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ([88]).
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية:" وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام" ([89]).
ثانياً:حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سئل عن علم فكتمه، ألجم بلجام من نار يوم القيامة " ([90]).
ووجه الدلالة من الحديث:" أنه إذا كان واجباً على المفتي بيان الجواب للمستفتي، وكان في حال كتمانه الجواب آثماً فإن أخذه أجرة على الفتوى أكل للمال بالباطل، حيث يأخذه على أمر واجب، قال الخطابي معلقاً على هذا الحديث:"وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين عليه فرضه .... كمن جاء مستفتياً في حلال أو حرام يقول أفتوني وأرشدوني فإنه يلزم في مثل هذه الأمور أن لا يمنعوا الجواب عما سألوا عنه من العلم، فمن فعل ذلك آثماً مستحقاً للوعيد والعقوبة، وليس كذلك الأمر في نوافل العلم، التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها" ([91]).
ثالثاً: أن الفتوى كغيرها من أعمال الطاعة والعبادة التي يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب فلا يفعلها إلا مسلم؛ وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله، فإنه يبقى مستحقا بالعوض معمولاً لأجله، والعمل إذا عمل للعوض لم يبقعبادة، كالصناعات التي تعمل بالأجرة، ومن المعلوم أن الفتوى لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة لله؛ كما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله والاستئجار يخرجها عن ذلك ([92]).
وأجيب عن هذا :بأنه إذا كانت لا عبادة في هذه الحال لا تقع على وجه العبادة فيجوز إيقاعها على وجه العبادة وغير وجه العبادة؛ لما فيها من النفع ([93]).
وقد انتقد شيخنا ابن عثيمين قول الفقهاء:«ولا تصح –يعني الإجارة- على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة» فقال:" هذه العبارة تداولها العلماء ـ رحمهم الله ـ وتلقوها ناشئاً عن سابق.... ولكن ما يقع قربة بالقصد، وينتفع به الغير فلا بأس أن يأخذ الإنسان عليه أجرة؛ من أجل نفع الغير، كالتعليم، إنسان قال لآخر: أريد أن تعلمني باب شروط الصلاة، فقال: ليس عندي مانع، لكن بشرط أن تعطيني أجرة، فنقول: هذا لا بأس به؛ لأن العوض هنا ليس عن التعبد بالعمل ولكن عن انتفاع الغير به.... إلى أن قال: إذا كانت العبادة ذات نفع متعدٍّ، وأراد الإنسان النفع المتعدي فلا بأس أن يأخذ عليه أجراً، ولو كانت من جنس الأشياء التي لا تقع إلا قربة؛ لأن هذا القارئ ما قصد التعبد لله بالقراءة بل قصد نفع الغير، إما التعليم أو الاستشفاء أو غير ذلك فهذا لا بأس به ([94]).
وقال أيضاً:" القاعدة: أن كل عمل لا يقع إلا قربة فلا يصح عقد الإجارة عليه، وما كان نفعه متعدياً من القرب صح عقد الإجارة عليه، بشرط أن يكون العاقد لا يريد التعبد لله ـ تعالى ـ بهذه القربة، وإنما يريد نفع الغير الذي استأجره لاستيفاء هذه المنفعة " ([95]).
رابعاً :أن منصب الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، وقد قال الله تعالىفي غير ما آية في كتابه مخاطباً نبيه بأن مهمة البلاغ أجرها من الله تعالى، وأنها غير قابلة لأخذ أجر من أجور الدنيا، في مثل قوله تعالى:ﭽﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭼ([96]).
قال الشنقيطي:" ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة: أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً، من غير أخذ عوض على ذلك، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام" ([97]).
قال ابن القيم:"فأما أخذه – يعني المفتي- الأجرة فلا يجوز له؛ لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا تجوز المعاوضة عليه، كما لو قال له: لا أعلمك الإسلام أو الوضوء أو الصلاة إلا بأجرة، أو سئل عن حلال أو حرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة، فهذا حرام قطعاً، ويلزمه رد العوض، ولا يملكه"([98]).
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال: بأن الفتيا وإن كانت تبليغاً عن الله ورسوله، فإنها في بعض المواضع لا تكون واجبة وجوباً عينياً، وإنما يشرع بذلها للمستفتي، ولهذا قلب بعض العلماء الاستدلال بالآية السابقة فقال:الآية تدل على أنه يحلّ أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام ، والمعنى لا أسألكم جعلاً تعففاً. أي: وإن حلّ لي أخذه " ([99]).
وذكر بعضهم : أن الآية على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجراً، كي لا يثقل عليهم الامتثال، وأما استفادة الحل والتحريم منها، ففيه خفاء ([100]).
القول الثالث: عدم جواز أخذ الأجرة على الفتوى للمفتي إن كان غير محتاج، وجواز أخذها عند الحاجة، بأن لا يكون له كفاية لا من ماله ولا من بيت المال وهذا أحد الأقوال في مذهب أحمد ([101]).
وهذا القول هو الذي يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في سائر الأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، يقول ابن تيمية:" وقيل: يجوز أخذ الأجرة عليها – فعل القربات - للفقير، دون الغني، وهو القول الثالث في مذهب أحمد، ... وهذا القول أقوى من غيره على هذا، فإذا فعلها الفقير لله، وإنما أخذ الأجرة لحاجته إلى ذلك، وليستعين بذلك على طاعة الله، فالله يأجره على نيته، فيكون قد أكل طيباً، وعمل صالحاً ([102]).
أدلة هذا القول:
أولاً : أن المفتي إن لم يأخذ أجرة على فتواه أفضى ذلك إلى ضرر يلحقه في عائلته - إن كانوا - وحرج، وهو منفي شرعاً، وإن لم يفت حصل-أيضاً- للمستفتى ضرر، فتعين الجواز ([103]).
ثانياً : قياس المفتي على ولي اليتيم، فكما أذن الله لولي اليتيم أن يأكل مع الفقر ويستغني مع الغنى، فكذلك المفتي ([104]).
لاستكمال القراءة يرجى تحميل ملفات الكتاب
word التفاصيل
إجــارة النــخيـــل
د / عبدالله بن عمر بن محمد السحيباني
الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة القصيم
1432هـ
********
المقدمة
الحمد لله على شرعه وتيسيره، أحمده سبحانه وأشكره، أكرم هذه الأمة بخير الشرائع وأوفاها، وأرسل لها خير البشرية وأزكاها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن إجارة النخيل أو غيرها من الأشجار تعتبر من المعاملات القديمة التي ذكرها الفقهاء المتقدمون وبيّنوا رأيهم فيها، فليست هذه المسألة نازلة معاصرة، وإن كانت صورتها اليوم أخذت تطوراً وتوسعاً أكثر من ذي قبل، فالمزارع اليوم أشبه ما تكون بالمصانع الكبيرة، وذلك لتدخل الآلة في العملية الزراعية مما سهل الحصول على الماء بكميات كبيرة جداً، لذلك كثرة - ولله الحمد - مزارع النخيل في بلادنا المباركة، وصار أصحاب تلك المزارع يحتاجون إلى من يقوم على مزارعهم بالرعاية والعناية لكثرة أعداد النخيل فيها، فلجأ كثير منهم إلى معاملة معروفة وهي المؤاجرة على النخيل.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع، وكونه في هذه الأيام مثار جدل بين العاملين في هذا المجال، وكذ المهتمين من طلبة العلم والعلماء في حكم هذه المعاملة، أحببت المساهمة في إثراء هذا الموضوع بالبحث والدراسة العلمية المبنية على الأسس الصحيحة للبحث العلمي الدقيق، ولأن هذه المسألة كما يراها الناظر مسألة واحدة، فقد حاولت تأصيلها، وبيان أحكامها، وما يترتب عليها، ورأيت لذلك تقسيم البحث فيها إلى المباحث التالية:
المبحث الأول:مفردات العنوان.
المبحث الثاني :صورة عقد الإجارة على النخيل.
المبحث الثالث:الأحاديث الواردة في بيع ثمار النخيل.
المبحث الرابع :عرض خلاف الفقهاء في إجارة النخيل.
المبحث الخامس :بدائل إجارة النخيل.
وأخيراً أسأل الله أن ينفع بها العمل، وأن يكتبه في ميزان الصالحات ، وصلى الله وسلم على النبي وآله الطيبين وأصحابه أجمعين.
المبحث الأول : مفردات العنوان.
أولاً : الإجارة :
قال أهل اللغة:الإِجارة من أَجَر يَأْجِرُ، وهو ما أعطيت من أجر في عمل، والأجير: هو المستأجر، وجمعه أجراء، والأجر: الثواب؛ وقد أجره اللَّه يأْجُرُه ويأْجِرُه أَجْراً وآجَرَه اللَّه إِيجاراً. وأْتَجَرَ الرجل: تصدق وطلب الأجر، قال الأزهري : " ومن هذا قول الناس: آجرَكَ اللَّه أَي أثابك الله، وقال – أيضاً - : "يقال: آجَرهُ الله يَأْجُرُه أَجْراً، وأَجرْت المملوك، فهو مَأْجُورٌ أَجراً، وأَجرْتُه أُوجرهُ إيجاراً، فهو مُؤْجَرٌ، وكل حسن من كلام العرب" ([1]).
والإجارة بالكسر وهو المشهور ، ويجوز فيها الضم والفتح ([2]) .
وقال القرافي:"ولما كان أصل هذه المادة الثواب على الأعمال، وهي منافع، خصصت الإجارة ببيع المنافع، على قاعدة العرب في تخصيص كل نوع تحت جنس باسم؛ ليحصل التعارف عند الخطاب" ([3]).
أما الإجارة في الاصطلاح الفقهي: فقد اختلفت عبارات فقهاء المذاهب في تعريفها، ولعلي أنقل هنا أتم تلك التعريفات في كل مذهب :
فذكر فقهاء الحنفية :أن الإجارة عقد على منفعة، معلومة، بعوض معلوم، إلى مدة معلومة ([4]) .
وعند بعض المالكيةأن الإجارة : عقد معاوضة على تمليك منفعة، في نظير عوض، أمداً معلوماً، أو قدراً معلوماً ([5]) .
وذكر فقهاء الشافعية:أن الإجارة: عقد على منفعة، مقصودة، معلومة، قابلة للبذل والإباحة، بعوض معلوم ([6]) .
أما الحنابلة : فحدها صاحب الروض المربع بقوله: " هي عقد على منفعة ، مباحة، معلومة، من عين معينة، أو موصوفة في الذمة،مدة معلومة،أو عمل معلوم، بعوض معلوم"([7]).
وكما هو ظاهر فغالب هذه التعريفات متقاربة، والفرق بينها يسير، وبعضها يعرف الإجارة بنوعيها إجارة الأعيان وإجارة الأعمال، والذي يهمنا هنا هو تعريف إجارة الأعيان، ولعل الأقرب في تعريفها أن يقال أنها:
عقد معاوضة على تمليك منفعة عين، مباحة، معلومة، بعوض معلوم إلى أمد معلوم.
ثانياً : تعريف النخيل :
يقول أهل اللغة : النَّخْل : معروف، وهو شجر التَّمرِ، كالنَّخيلِ كأميرٍ، وظاهر كلامهم أنّ النخيل استعمل كالنَّخْل، وهو اسم جنس جمعيٍّ، واستعمل جمعاً لنَخْلَةٍ، والمعروف أنّه جمع لنَخْلٍ، يؤنث ويذكر، قال أبو حنيفة : أهل الحجازِ يؤنثونه، وفي التنزيل العزيز: والنَّخْلُ ذاتُ الأَكْمام، وأهل نجد يذكرون، جمعها نَخْل ونَخِيْلٌ وُنخْلانٌ، وثلاثة نَخَلاتٍ([8]) .
أما لماذا النخيل دون غيره في العنوان؟
فالحقيقة أنني قد اخترت أن يكون البحث بهذا العنوان إجارة النخيل، وإن كان الحكم لا يخص النخيل فقط، بل يعم سائر الأشجار ، لعدة أمور:
الأول منها:أن النخيل هو الشجر المشهور الكثير في بيئتنا المحلية، وهو الذي انتشرت فيه هذه المعاملة في العصر الحاضر.
والثاني:أن ذكر النخيل في باب المعاوضات كثير في كتب الفقهاء، بل كثير من الفقهاء لا يذكر في المعاملات والمعاوضة على الشجر إلا النخيل ([9]) .
وبعضهم يذكر النخيل وسائر الشجر، بعطف أحدهما على الآخر ([10]) .
والثالث:أن شجر النخيل شجر فاضل مبارك، ورد ذكره وبيان فضله على سائر الشجر في القرآن والسنة ، ولهذا قيل : لا تكاد شجرة فى الأرض تبلغ المدى الذي تصل إليه النخلة، وكأنها بهذا تتربع على عرش المملكة النباتية ([11]) ، ولهذا السبب رأيت أن أضع بين يدي القارئ الكريم بعضاً من النصوص التي تبيّن قيمة النخل وفوائدها وفضها، وتفردها بالذكر في نصوص القرآن والسنة ، فمن ذلك:
أولاً : ذكر النخل في القرآن الكريم:
قد جاء ذكر النخل في القرآن في عدة مواضع بعضها بالنص الصريح، وبعضها بالوصف، فمن المنصوص عليه :
1- قول الباري سبحانه : ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼ([12])،خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على فضله على سائر الأشجار، ولبيان جودته بأن طلعه هضيم([13]).
2 - وﭧ ﭨ ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ([14])، وفي تعريف النخل، مع اختصاصها بالذكر من بين ما فى الجنات من أشجار إشارة إلى تكريم هذه الشجرة المباركة([15]).
3 - وﭧ ﭨ ﭽ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﭼ([16]) عطف على الفاكهة النخل، وأفرده بالذكر لشرفه ونفعه، فهو أهم شجر الفاكهة عند العرب الذين نزل القرآن فيهم، وهو يثمر أصنافاً من الفاكهة من رطب وبسر ومن تمر، وهو فاكهة وقوت ([17]) .
4 – وقال سبحانه:ﭽ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﭼ([18])، قال بعض السلف : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، وقال بعضهم: ما أدري للمرأة إذا عسر عليها ولدها خير من الرطب ([19]).
ومما جاء فيه ذكر النخل بوصفه قوله سبحانه: ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭼ([20]).
ففي قول أكثر أهل التفسير من الصحابة ومن بعدهم أن المقصود بالشجرة الطيبة النخلة، وقد جاءت آثار عن السلف تدل لذلك، كما يدل له حديث ابن عمر الآتي في تشبيه المؤمن بالنخلة([21])، قال ابن القيم : " ومن السلف من قال: إن الشجرة الطيبة هي النخلة، ويدل عليه حديث ابن عمر في الصحيح.... والمقصود بالمثل: المؤمن، والنخلة مشبهة به، وهو مشبه بها، وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك، ومن قال من السلف:إنها شجرة في الجنة، فالنخلة من أشرف أشجار الجنة، وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به، ويقتضيه علم الرب الذي تكلم به، وحكمته سبحانه" ([22]).
هذا، وتحتل النخلة مكان القمة فى المملكة النباتية، كما يأخذ الإنسان مكان القمة فى المملكة الحيوانية، ولهذا كثر ذكرها فى القرآن، وخاصة فى معرض التذكير بنعم الله، وبما بين يدى الناس من هذه النعم، التي تتجلى فى الجنات والزروع، فلا تكاد تذكر الجنات وما فيها من ثمار، حتى تأخذ النخل مكان الصدارة، أو تنفرد وحدها بالذكر، اكتفاء بها عن كل شجر غيرها، وحتى لكأنّ الجنة لا تكون جنة إلا إذا كانت النخل آخذة مكانها فيها، يقول تبارك وتعالى: «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ » الآية([23])، ويقول سبحانه: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً» ([24]) ، ومثل هذه الآيات والآيات السابقة كثير، فالنخلة خير ثمر وأطيب ما تخرج الأرض من ثمر! ([25]) .
ثانياً : النخلة في السنة المشرفة :
جاء في فضل النخلة أحاديث صحيحه، منها ما أورده البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله r: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي» فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله قال: «هي النخلة» ([26]).
وفي لفظ عند البخاري: «إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم» ([27]).
وهذا الحديث يدل على فضل هذه الشجرة على سائر الأشجار، كما هو فضل المسلم على سائر الخلق، وقد أورد العلماء في شرح هذا الحديث أوجها للشبه بين النخلة والمسلم، والمختار منها ما ذكره غير واحد من أنه ليس في النخلة شيء إلا وينتفع به، كما أن المؤمن كله خير ونفع، وهذا المعنى مذكور في بقية الحديث؛ فإنه قال:" لها بركة كبركة المسلم"، وأنها شديدة الثبوت كثبوت الإيمان في قلب المؤمن، وأنها عالية الفروع كعلو ارتفاع عمل المؤمن، وأنها تؤتي أكلها كل حين، والمؤمن يكتسب الثواب في كل وقت ([28]).
وذكر ابن حجر أن وجه الشبه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق من حيث أنه لا تسقط لمؤمن دعوة، وذكر أثراً في ذلك، وقال - أيضاً- :" وبركة النخلة موجودة في جميع اجزائها مستمرة في جميع احوالها... ثم قال: "وأما من زعم أن موقع التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت، أو لأنها لا تحمل حتى تلقح، أو لأنها تموت إذا غرقت، أو لأن لطلعها رائحة مني الآدمي، أو لأنها تعشق، أو لأنها تشرب من أعلاها، فكلها أوجه ضعيفة؛ لأن جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين لا يختص بالمسلم، وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خلقت من فضله طين آدم فإن الحديث في ذلك لم يثبت" ([29]).
المبحث الثاني : صورة العقد في إجارة النخيل.
المقصود بعقد الإجارة على النخيل: أن يتفق المؤجر مالك الأصل (النخل) والمستأجر الذي يريد المنفعة من النخلة، على أن تكون منافع هذا النخل للمستأجر، مدة معلومة، مقابل عوض معلوم، مع قيام المستأجر بكل ما يحتاج إليه النخل في هذه المدة.
ولا يخفى أنه لا بد في عقد الإجارة على الأعيان من تحديد المدة، فالمدة التي سوف يتولى المستأجر العقد فيها لها تأثير في حكم عقد الإجارة حتى لا تكون إجارة شكلية صورية، وتكون في حقيقتها بيعاً لا إجارة.
يقول ابن قدامة : "الإجارة إذا وقعت على مدة يجب أن تكون معلومة كشهر وسنة، ولا خلاف في هذا نعلمه، لأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه، المعرفة له، فوجب أن تكون معلومة، كعدد المكيلات فيما بيع بالكيل" ([30]).
لهذا لا بد في عقد الإجارة على النخيل وغيرها من الشجر من ذكر المدة الكافية لقيام المستأجر بعمل ما تحتاجه النخلة من عمل حتى تؤتي ثمرتها، وهذه قد تكون لمدة عام، أو عامين أو ثلاثة، أو أكثر.
أما لو عقد على النخيل أو غيره من الشجر مدة قصيرة كشهرين أو ثلاثة – كما يقوم به البعض اليوم- أي من حين تخلق الثمرة، وقبل أن يبدو الصلاح فيها أو بعده، فإن هذا في حقيقته بيع للثمرة، وتجري عليه أحكام البيع من الجواز أو المنع، وإن سمي إجارة .
فاشتراط المدة الكافية في هذا العقد مقصود لبيان التفريق بين عقدي البيع والإجارة، فالإجارة في أحكامها وشروطها تخالف البيع، ولهذا فلو كان صاحب النخل المالك له هو الذي يقوم على النخل بإصلاحه، ودفع الأذى عنه ، وسقيه ، وما يحتاح إليه فلا يمكن أن يقع على هذا النخل إلا عقد البيع، ولا يتصور أن يجري في هذا عقد الإجارة؛ إذ كيف يكون المستأجر مستأجراً وهو لا يملك المنفعة ولا التصرف فيها مدة عقد الإجارة، فالإجارة الحقيقية للنخل وغيره من الشجر إنما يكون لمن يقوم عليه فيصلحه، ويسقيه ، ويتابع مراحل الثمر فيه، وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الملحظ وبيّنه، فقال : " فإذا كان صاحب الشجر، هو الذي يسقيها ويعمل عليها حتى يصلح الثمرة، فإنما يبيع ثمرة محضة ، كما لو كان هو الذي يشق الأرض ويبذرها ويسقيها حتى يصلح الزرع، فإنما يبيع زرعاً محضاً، وإن كان المشتري هو الذي يجد ويحصل، كما لو باعها على الأرض، وكان المشتري هو الذي ينقل ويحول، ولهذا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما في النهي، حيث «نهى عن بيع الحب حتى يشتد، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه» ([31])، فإن هذا بيع محض للثمرة والزرع، وأما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلى المكتري حتى يسقيها، ويلقحها، ويدفع عنها الأذى، فهو بمنزلة دفع الأرض إلى من يشقها ويبذرها ويسقيها، ولهذا سوى بينهما في المساقاة والمزارعة، فكما أن كراء الأرض ليس ببيع لزرعها، فكذلك كراء الشجر ليس ببيع لثمرها، بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض كنسبة المساقاة إلى المزارعة، هذا معاملة بجزء من النماء، وهذا كراء بعوض معلوم" ([32]).
المبحث الثالث : الأحاديث الواردة في بيع ثمار النخل ونحوها.
لم يرد – حسب علمي – في صحيح السنة نص صريح يفيد حكم إجارة النخل أو غيرها من الشجر، والأحاديث الواردة كلها في بيع الأشجار والثمار، بعضها يفيد حكم الإباحة، كأحاديث إباحة السلم في الثمار، وأحاديث بيع النخل المؤبر، وبعضها يفيد حكم المنع، كالأحاديث الواردة في النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع السنين، والإجارة كما هو معلوم نوع من البيع، بل هي في الحقيقة بيع المنافع ، وفي تقديري أنه لا يحسن أن يخوض أحد في هذه المسألة إلا بعد أن يقف على ما ورد في السنة النبوية من الأحاديث المتكاثرة في نهي النبي rعن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وعن بيع السنين، ويتأمل مدى علاقة تلك الأحاديث بمسألة إجارة النخل أو غيرها من الشجر لأجل ما فيها من الثمر، والتي هي عمدة جماعة من الفقهاء ممن منع من إجراء عقد الإجارة على الشجر - كما سيأتي – .
لذا قصدت في هذا المبحث إفراد هذه الأحاديث، والوقوف على ما تيسر منها، والتأمل في مدى حجيتها على مسألتنا، وذلك في مطلبين :
المطلب الأول : الأحاديث الواردة في النهي عن بيع ثمار النخل.
المطلب الثاني: مدى حجية هذه الأحاديث على المنع من إجارة النخل.
المطلب الأول : الأحاديث الواردة في النهي عن بيع ثمار النخل:
أولاً : الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه:
ثبت في صحيح السنة عدة أحاديث تدل على تحريم بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وقد جاءت بألفاظ كثيرة ، منها:
1 - ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر t: «أنَّ رسول اللَّه r" نهى عن بيع الثِّمار حتَّى يبْدُو صلاحها، نهى البائع والمبتاع» ([33]).
2 - وفي الصحيحين – أيضاً- عن جابر بن عبد اللَّه tقال: " «نهى النبيr أن تباع الثَّمرة حتى تُشَقِّح "، قيل: وَمَا تُشَقِّحُ؟ قال: " تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ، ويؤكل منها» " ([34]).
3 - وفيهما عن أبي البختري قال: سَأَلْتُ ابن عَبَّاسٍ عن بيع النَّخْلِ، فقال: " «نهى رسول اللَّه rعن بيع النخل حتى يأكل منه، أو يؤكل، وحتى يوزن، فقلت: مَا يوزن؟ فقال رجل عنده: حتى يحرز»"([35]).
4- وفي البخاري عن أنس بن مالك t، أَنَّ رسول اللَّه rنهى عن بيع الثِّمار حتى تزهي، فقيل له: وما تزهي؟ قال: حتى تَحْمَرَّ، فقال رسول اللَّه r: «أرأيت إِذا منع اللَّه الثَّمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه» ([36]).
5- وفي مسلم عن أبي هريرة tقال: قال رسول اللَّه r: " « لَا تبتاعوا الثِّمار حتَّى يَبْدُو صلاحها، لا تبتاعوا الثَّمر بالتَّمر» " ([37]).
يقول الماوردي : " فهذه خمسة أحاديث تمنع من بيع الثمار قبل بدو الصلاح، وألفاظها وإن كانت مختلفة فمعانيها متفقة، فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذه الألفاظ المختلفة في أزمان مختلفة، فنقل كل واحد من الرواة ما سمعه من لفظه، ويحتمل أن يكون النبي - r- قال أحد هذه الألفاظ فنقل كل واحد من الرواة المعنى وعبر عنه بغير ذلك اللفظ، فكان اختلاف الألفاظ من جهة الرواة، ويجوز عندنا مثل هذا أن يعبر الراوي عن المعنى بغير اللفظ المسموع إذا كان المعنى جلياً " ([38]).
6 - وثبتفي البخاري عن زيد بن ثابت t، قال: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتبايعون الثمار، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام، عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله rلما كثرت عنده الخصومة في ذلك: "فإما لا، فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر» كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم " ([39]).
وقد استدل جماعة من العلماء بحديث زيد هذا على أن النهي الوارد عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه في كل الأحاديث إنما هو للتنزيه، وقد جاء من النبي rعلى سبيل النصيحة والمشورة لأهل تلك المعاملات، وليس القصد منه منعهم من ذلك.
يقول الطحاوي : " وقد قال قوم: إن النهي الذي كان من رسول الله rعن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها , لم يكن منه على تحريم ذلك , ولكنه كان على المشورة عليهم بذلك لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه ورووا ذلك عن زيد بن ثابت t....إلى أن قال : فدل ما ذكرنا أن ما روينا في أول هذا الباب , عن رسول الله rمن نهيه عن بيع الثمار , حتى يبدو صلاحها , إنما كان هذا على المعنى , لا على ما سواه " ([40]).
ونقل هذا ابن بطال ، لكنه عقب عليه بمخالفته الفتوى، فقال : " قال بعض الكوفيين: إن نهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها لم يكن منه على وجه التحريم، وإنما كان على وجه الأدب والمشورة منه عليهم، لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، واحتجوا بحديث زيد بن ثابت. وأئمة الفتوى على خلاف قولهم، والنهى عندهم محمول على التحريم" ([41]).
وكذلك نقل هذا التأويل العراقي في طرح التثريب ورده فقال ناقلاً هذا الجواب عن الحديث: " الجواب الثاني : أن النهي هنا ليس للتحريم، وإنما هو على سبيل التنزيه والأدب والمشورة عليهم، لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، وهذا مردود، والأصل في النهي التحريم حتى يصرفه عن ذلك صارف " ([42]).
الخلاف في دلالة هذه الأحاديث :
قد ذهب أكثر الفقهاء إلى ما دلّ عليه ظاهر هذه الأحاديث من النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، فهو بيع محرم؛ لظاهر هذه النصوص، ولأدلة أخرى، من اشتمال العقد على الغرر، وإفضائه إلى النزاع والخصومة ([43]).
بينما لم يذهب جماعة من أهل العلم من المحدثين والفقهاء منهم فقهاء الحنفية إلى ما دلّ عليه ظاهر النصوص المتقدمة، فذهبوا إلى جواز بيع التمر على رؤوس النخل قبل بدو صلاحه([44])، وتأولوا هذه الأحاديث بتأويلات كثيرة، منها ما ذكره الإمام أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار حيث قال بعد سياقه جملة من الأحاديث المتقدمة: " فذهب قوم إلى هذه الآثار, فزعموا أن الثمار لا يجوز بيعها في رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر. وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: هذه الآثار كلها عندنا, ثابتة صحيح مجيئها, فنحن آخذون بها, غير تاركين لها، ولكن تأويلها عندنا, غير ما تأولها عليه أهل المقالة الأولى، وذلك أن النبي rنهى عن بيع الثمار, حتى يبدو صلاحها , فاحتمل ذلك أن يكون على ما تأوله عليه أهل المقالة الأولى, واحتمل أن يكون أراد به بيع الثمار, قبل أن يكون, فيكون البائع بائعاً لما ليس عنده, فقد نهاه رسول الله rعن ذلك, في نهيه عن بيع السنين"([45]).
فتأول النهي في الحديث على النهي عن بيع المعدوم، واستدل على ذلك بأحاديث النهي عن بيع السنين – الآتي ذكرها – ، كما استدل بحديث ابن عمر tفي الإذن ببيع الثمر على رؤوس النخل قبل بدو صلاحها في حين بيعها مع أصولها، في حديث «من باع نخلاً بعد أن يؤبر, فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع»([46])قال الطحاوي : " قد أباح النبي rهاهنا , بيع ثمرة في رءوس النخل قبل بدو صلاحها، فدل ذلك أن المعنى المنهي عنه في الآثار الأول خلاف هذا المعنى.
وقد رد المانعون العاملون بظاهر النص النبوي هذا التأويل للأحاديث ، ومن ذلك ما ذكره العراقي حيث قال: " وهذا مخالف لتفسيره بدو الصلاح في الحديث بأنه صفرته وحمرته، وبأنه صلاحه للأكل منه، وبأنه ذهاب عاهته" ([47]).
والذي يترجح في حكم بيع الثمر – أياً كان نوعه - قبل أن يظهر فيه علامات الصلاح هو المنع، والحكم بفساد البيع؛ وذلك لأن النصوص صريحة في المسألة والعمل بظاهرها وصراحتها أولى من تركها إلى التأويلات، التي لا ينصرها أثر، أو نظر صحيح.
ثانياً : الأحاديث الواردة في النهي عن بيع السنين :
جاءت السنة بالنهي عن بيع السنين وهو : بيع ثمار النخل بأعيانها ثلاث سنين أو أربع أو أكثر من ذلك ، وقد جاء النهي عن ذلك في عدة أحاديث منها: ما فِي الصحيحين عن جابر tقال: " «نهى النبي rعن الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ» "، وفي رواية لهما " «وَعن بيع السِّنِينَ» " بدل " الْمُعَاوَمَةِ " ([48]).
قال الخطابي : " بيع السنين هو أن يبيع الرجل ما تثمره النخلة أو النخلات بأعيانها سنين ثلاثاً أو أربعاً أو أكثر منها، وهذا غرر؛ لأنه يبيع شيئاَ غير موجود ولا مخلوق حال العقد، ولا يدري هل يكون ذلك أم لا، وهل يتم النخل أم لا، وهذا في بيوع الأعيان، فأما في بيوع الصفات فهو جائز، مثل أن يسلف في الشيء إلى ثلاث سنين أو أربع أو أكثر ما دامت المدة معلومة،إذا كان الشيء المسلف فيه غالباً وجوده عند وقت محل السلف" ([49]).
وكذا قال ابن عبد البر: " هذا في بيع الأعيان، وأما السلم الثابت في الذمة بالصفة المعلومة فجائز عاماً وأعواماً " ([50]).
وهذا الاستثناء الذي ذكره الإمام الخطابي وابن عبدالبر مهم، فإن الشريعة إنما حرمت بيع المعدوم وغير الموجود، الذي يؤدي العقد عليه إلى غرر بيّن، وجهالة فاحشة، أما ما هو موصوف في الذمة وصفاً ينتفي معه الغرر والجهالة فإنه لا يمنع منه، وقد أباحته الشريعة؛ لأن الغرر فيه يسير محتمل، ولأن في المنع منه ضرراً على الناس في معاملاتهم وأموالهم.
المطلب الثاني: مدى حجية هذه الأحاديث على المنع من إجارة النخل:
يرى المانعون لإجارة النخل أن هذه الأحاديث التي فيها النهي عن بيع الثمر قبل بدو الصلاح، والنهي عن بيع الثمر أعواماً قبل أن تخلق، يدل على النهي -أيضاً - عن الإجارة للنخل، فالإجارة نوع من البيع، وما الفر ؟ فلو جازت الإجارة لجاز البيع – أيضاً-.
قال محمد بن الحسن : " ولئن جازت إجارته – يعني الثمر - بالدراهم والدنانير قبل أن يخرج ليجوزن بيعه قبل أن يخرج، وما بينهما افتراق، ليس يجوز شيء من هذا قليلاً كان ولا كثيراً، كان معه بياض أو لم يكن، في إجارة ولا بيع " ([51]).
لكن أجيب عن هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً : أن تلك الأحاديث في النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، والمسألة محل الخلاف في إجارة النخل والأشجار، وفرق بين بيع الثمار أو إجارتها وبين بيع الأشجار وإجارتها، والدليل على وجود الفرق أنه لا يجوز بيع الثمار قبل بدو الصلاح، بينما يجوز بيع الأشجار وفيها شيء من الثمار حتى لو لم يبد فيها الصلاح، بدليل النص في حديث ابن عمر المتفق عليه «من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع»، ولأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، فلا يجوز بيع الجنين منفرداً، ويجوز بيعه تبعاً لأمه، فالأحاديث فيها النهي عن بيع الثمرة منفردة عن الشجر قبل صلاحها، وليس فيها نهي عن بيع الشجر المثمر الذي لم يظهر فيه الصلاح، وكذا ليس فيها نهي عن إجارة ذلك الشجر.
ثانياً : أن الأحاديث المذكورة واردة في النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وهي لا تتناول الإجارة للشجر المثمر أو الذي ينتظر ثمره، لوجود الفارق بين عقدي البيع والإجارة، فالإجارة ليست بيعاً للثمرة قبل بدو صلاحها، ولو كان كذلك لكان على البائع مؤونة التوفية، وضمان الدرك ونحو ذلك ([52]).
ثم إن البائع في عقد البيع عليه السقي وغيره مما فيه صلاح الثمرة، حتى يكمل صلاحها، وليس على المشتري شيء من ذلك، وأما في عقد الإجارة فإن المستأجر هو الذي يقوم بالسقي والعمل حتى تحصل الثمرة والزرع، فاشتراء الثمرة اشتراء للرطب، فإن البائع عليه تمام العمل حتى يصلح؛ بخلاف من دفع إليه الحديقة وكان هو القائم عليها ([53]).
ومما يدل على أن صورة عقد الإجارة على النخل لم تدخل في نهي النبي rوأن مالك النخل لم يبع ثمره أصلاً، أنه لو استأجر الأرض جاز، ولو اشترى الزرع قبل اشتداد الحب بشرط البقاء لم يجز، فكذلك يفرق في الشجر ([54]).
ولمزيد البيان لهذا الفرق يقول ابن القيم : " والنبي rنهى عن بيع الحب حتى يشتد، ولم ينه عن إجارة الأرض للزراعة، مع أن المستأجر مقصوده الحب بعمله، فيخدم الأرض ويحرثها ويسقيها ويقوم عليها، وهو نظير مستأجر البستان ليخدم شجره ويسقيه ويقوم عليه، والحب نظير الثمر، والشجر نظير الأرض، والعمل نظير العمل؛ فما الذي حرم هذا وأحل هذا؟ وهذا بخلاف المشتري؛ فإنه يشتري ثمراً وعلى البائع مؤنة الخدمة والسقي والقيام على الشجر؛ فهو بمنزلة الذي يشتري الحب وعلى البائع مؤنة الزرع والقيام عليه.
فإن قيل: الفرق أن الحب حصل من بذره، والثمر حصل من شجر المؤجر.
قيل: لا أثر لهذا الفرق في الشرع، بل قد ألغاه الشارع في المساقاة والمزارعة فسوى بينهما؛ والمساقي يستحق جزءاً من الثمرة الناشئة من أصل الملك؛ والمزارع يستحق جزءاً من الزرع النابت في أرض المالك، وإن كان البذر منه، كما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة وإجماع الصحابة، فإذا لم يؤثر هذا الفرق في المساقاة والمزارعة التي يكون النماء فيها مشتركاً لم يؤثر في الإجارة بطريق الأولى؛ لأن إجارة الأرض لم يختلف فيها كالاختلاف في المزارعة، فإذا كانت إجارتها عندكم أجوز من المزارعة، فإجارة الشجر أولى بالجواز من المساقاة عليها، فهذا محض القياس وعمل الصحابة ومصلحة الأمة " ([55]).
ومما يؤيد تخصيص النص النبوي في النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بعقد البيع فقط، دون غيره من العقود الأخرى، النص النبوي الآخر في جواز عقد السلم في الثمار، فهو في حقيقته كالاستثناء من تلك الأحاديث فعقد السلم بيع للثمر قبل تخلقه ، وقبل بدو صلاحه، لكنه بيع موصوف في الذمة لا بيع عين، وقد نص جماعة من العلماء منهم الخطابي وابن عبدالبر - كما تقدم - في بيع السنين أنه محمول على بيوع الأعيان لا بيع الصفات، وكذا نص ابن بطال على ذلك هنا، فقال : " وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها محمول على أن بيع الثمرة عينًا لا يجوز، إلا بعد بدو صلاحها، وفى السلم ليس عند العقد ثمرة موجودة عند البائع تستحق اسم البيع حقيقة، وحديث النهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها مرتب على السلم، تقديره: أنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها إلا أن يكون سلماً، بدليل حديث ابن عباس أنهم كانوا يسلفون فى الثمر السنتين والثلاث، وذلك بيع له قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يخلق " ([56]).
وكذا من أباح إجارة الشجر قبل أن يخلق الثمر فيه يقول : إن النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها لا يجوز إلا أن يكون ذلك إجارة ، فإن النص النبوي لم يتعرض له، بدليل وجود الاستثناء من بيع الثمر قبل بدو صلاحه بمعاملات أخرى، كالسلم في الثمار السنتين والثلاث، وليس اسم البيع بواقع على تلك المعاملة، فليس عند العقد ثمرة موجودة عند المؤجر تستحق اسم البيع حقيقة.
ومثل ذلك - أيضاً - عقد المساقاة فإن من دفع البستان إلى من يعمل عليه بنصف ثمره وزرعه، كان هذا مساقاة ومزارعة فاستحق نصف الثمر والزرع بعمله، وليس هذا اشتراء للحب والثمرة ([57]).
يقول ابن القيم في التفريق بين عقدي البيع والإجارة هنا :"والفرق بين إجارة الشجر لمن يخدمها ويقوم عليها حتى تثمر، وبين بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أوجه:
أحدها:أن العقد هنا وقع على بيع عين، وفي الإجارة وقع على منفعة، وإن كان المقصود منها العين فهذا لا يضر،كما أن المقصود من منفعة الأرض المستأجرة للزراعة العين.
الثاني:أن المستأجر يتسلم الشجر فيخدمها ويقوم عليها كما يتسلم الأرض، وفي البيع البائع هو الذي يقوم على الشجر ويخدمها، وليس للمشتري الانتفاع بظلها ولا رؤيتها ولا نشر الثياب عليها، فأين أحد الرأيين من الآخر؟
الثالث:أن إجارة الشجر عقد على عين موجودة معلومة لينتفع بها في سائر وجوه الانتفاع، وتدخل الثمرة تبعاً، وإن كان هو المقصود، كما قلتم في نقع البئر ولبن الظئر أنه يدخل تبعاً وإن كان هو المقصود، وأما البيع فعقد على عين لم تخلق بعد فهذا لون وهذا لون.
وسر المسألة أن الشجر كالأرض، وخدمته والقيام عليه كشق الأرض وخدمتها والقيام عليها، ومغل الزرع كمغل الثمر، فإن كان في الدنيا قياس صحيح فهذا منه" ([58]).
وبهذا يتبيّن عدم استقامة الاستدلال بأحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح في منع إجارة النخل وسائر الشجر، وذلك لعدم تناوله عقد الإجارة على الشجر، فهو أولاً نهي عن بيع الثمار لا عن بيع أو إجارة الأشجار، وهو ثانياً نهي عن البيع لا عن الإجارة .
ويبقى بعد ذلك النظر في سائر الأدلة ودلالتها على حكم المسألة، وهو ما سوف يتضمنه المبحث الآتي- إن شاء الله - .
المبحث الثالث : عرض خلاف الفقهاء في إجارة النخيل.
تحرير محل النزاع :
لعل من نافلة القول أن الخلاف المقصود عرضه هنا هو الخلاف في إجارة النخل ونحوها من الأشجار فيمن استأجرها لأجل ما فيها من النتاج والثمار ونحوها، فيكون الثمر وما تنتجه الأشجار من مأكول وغيره هو المقصود من عقد الإجارة، أما لو كان عقد الإجارة على الشجر لغرض آخر غير الثمر، كمن استأجر شجراً ليستظل فيه، أو استأجر شجراً ليبسط عليه ثياباً ونحوه، فهذا لا يدخل فيما نتحدث فيه، والخلاف وإن كان موجوداً في هذه المسائل فهو أضعف من الخلاف في هذه المسألة، من جهة الحاجة إلى تلك المسائل، ومن جهة قوة الأدلة عليها ([59]).
و- أيضاً - فإن الخلاف في هذه المسألة محصور في إجارة الأشجار من النخل وغيرها قصداً، يعني لأجل ثمار الأشجار، بغض النظر عن موجودات المزرعة من أرض للزرع أو مساكن أو نحو ذلك، فإن خلاف الفقهاء في إجارة الأرض للزراعة وإن كان يشبه خلافهم في إجارة الأشجار، إلا أن جماعة من الفقهاء يفرقون بينهما فيجيزون إجارة الأرض للزرع، ويمنعون إجارة الشجر للثمر، لكن عرض الخلاف هنا سيكون محصوراً في إجارة الشجر من النخل وغيره لقصد الثمر، سواء شمل عقد الإجارة سائر البستان أو المزرعة أو كان خاصاً بالشجر وما تحته ([60]).
القول الأول : عدم جواز إجارة النخل ونحوها من الأشجار لمن يستغلها ويستفيد من ثمرتها مدة معلومة، وهذا هو قول أكثر الفقهاء من الحنفية ([61])والمالكية ([62])والشافعية([63])والحنابلة ([64]).
أدلة هذا القول:
الدليل الأول :الأحاديث المتكاثرة المعروفة في نهي النبي rعن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، وعن بيع السنين، والتي تقدم سياق جزء منها في المبحث السابق([65])، قالوا: والنهي عن البيع للثمر قبل بدو صلاحه يتظمن النهي عن إجارة الشجر لأجل ثمره، فلا فرق بين البيع والإجارة في هذا.
وقد أجيب عن هذا الاستدلال بعدة أجوبة - كما سبق – ولا حاجة هنا لتكرارها.
الدليل الثاني: الإجماع على عدم جواز إجارة النخل والشجر قبل بدو الصلاح، وممن ذكر الإجماع في هذا أبو عبيد - رحمه الله - ([66]).
وأجيب عن هذا الدليل بجوابين:
الأول:أن دعوى الإجماع هنا دعوى عارية عن الحجة والدليل، فلا إجماع مع وجود المخالف، ولعل من نقل الإجماع هنا أراد به قول الأكثر من الفقهاء، أو أنه لا يعرف غير هذا القول، وهذا لا يعني عدم وجود الخلاف.
ولهذا قال ابن القيم : " وهذا الذي ذهب إليه أبو عبيد هو المعروف عند الأئمة الأربعة، وجعلوا كراء الشجر بمنزلة بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: ليست إجارة الشجر من بيع الثمر في شيء، وإنما هي بمنزلة إجارة الأرض لمن يقوم عليها ويزرعها ليستغلها، وهذا مذهب الليث بن سعد، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، اختاره شيخنا، وأبو الوفاء بن عقيل، وهو الذي نختاره " ([67]).
والثاني: كما أجيب عن هذه الدعوى للإجماع بأنها على خلاف الواقع، بل الواقع يدل على اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم على جواز إجارة الأشجار، فقد فعل عمر بن الخطاب tذلك بالمدينة النبوية بمشهد من المهاجرين والأنصار ، وهذا الفعل من عمر tفي مظنة الاشتهار، ولم ينقل عن أحد أنه أنكره ([68]).
يقول شيخ الإسلام: " وقد ذكر هذا الأمر بعض فقهاء المغرب، وزعمأنّه خلاف الإجماع، وليس بشيء، بل ادعاء الإجماع على جوازه أقرب، فإن عمر tفعله بالمدينة النبوية، بمشهد من المهاجرين والأنصار، واشتهر ولم ينكر، مع أنهمكانوا ينكرون ما دون هذا على عمر" ([69]).
ويقول ابن القيم : " ومن ادعى أن ذلك خلاف الإجماع فمن عدم علمه، بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب " ([70]) .
الدليل الثالث:أن هذه المعاملة تفتقدشرطاً من شروط صحة عقد الإجارة؛ إذ لابد في عقد الإجارة أن يكون محل العقد (المعقود عليه) المنفعة لا العين، فتكون الإجارة واقعة على نفع العين دون أجزائها، ولهذا لا يصح استئجار الطعام ليأكله، والحيوان ليأخذ لبنه، وإجارة الأشجار والنخل إجارة واقعة على الأعيان، لا على المنافع، فلا تجوز لذلك ([71]).
والذي يظهر لي أن أكثر الفقهاء قد انطلقوا في منعهم من إجارة الشجر لأخذ ثمره من هذا المنطلق، ففرعوا على هذا الشرط هذه المسألة، وأكثرهم لم يذكر لها دليلاً غير هذا، فمن خلال التتبع والنظر فيما تحمله كتب الفقهاء في سائر المذاهب نجد تفريع هذه المسألة والتمثيل به عند ذكرهم هذا الشرط، وهذا في كتب عامة الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ولعل من المناسب هنا نقل بعض النصوص من كتبهم، ليتضح للقارئ اعتماد أكثر الفقهاء في تحريمهم إجارة الشجر على اشتراط هذا الشرط.
لاستكمال القراءة يرجى تحميل ملفات الكتاب
word أو pdf
التفاصيلالحمد لله..
أما بعد.
القرآن الكريم يوجِّه أنظار الناس إلى التأمُّل في عجائب صنع الله في هذا الكون، آيات في الكون شاهدات على عظيم الخالق الرازق، الحكيم الخبير
وعبادة التفكر في ملكوت السماء والأرض عبادة النبي صلى الله عليه وسلم منذ تحنثه وهو شاب في غار حراء، وهي عبادة الأنبياء والصالحين من عباد الله، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.
جاء في الحديث الذي صححه بعضهم:" لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، ثم قرأ : "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ،الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) واعتنى السلف بهذه العبادة الجليلة وكان لهم فيها أحوال. قال الحسن البصري: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة). وقال أيضا: (الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك). وقال سفيان بن عيينة: (الفكرة نور يدخل قلبك).
أيها الإخوة: أفلا ننظر إلى السماء كيف رفعت، كيف أن الله بناها، وكيف زينها بأبدع صورة، إن في السماء مخلوقاتٍ عظيمة هائلة، تسير وفق خطط محكمة، خلق هائل عظيم يفوق الخيال ويتجاوز حدود الفكر، مخلوقات عظيمة مسخرة بأمر الله ومرتبطة بكوكب الأرض وما فيه من مخلوقات، وما نراه ونشاهده هو السماء الدنيا، فكيف هو حال السموات السبع وما فيهن، والمجرات الأخرى العظيمة، كون فسيح عظيم، فيه عجائب لا تنتهي، تسير وفق نظام يعجز البشر عن وجود خلل فيه مهما كرر النظر والفكر (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)
تفكر في خلق الشمس، مخلوق هائل عظيم، يمد الأرض ومن فيها بأنواع المنافع بأمر الله، ولولا الشمس ما استمرت الحياة، ولا وجد المطر ولا الشجر، بل لولا الشمس ما وجدت حبة قمح ولا تمرة، ولا أي غذاء، شمس مسخرة تجري لمستقر لها، فيتعاقب الليل والنهار بانتظام بديع، (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا).
تفكر في خلق الأرض كيف مدها الله، وجعلها قراراً، وكيف جعل خلالها أنهاراً، وكيف جعل فيها جبالا رواسي شامخات، بل كيف وجدت فيها تلك البحار العظيمة، وكيف ينزل الله المطر، وكيف جعل الله في الأرض حدائق ذات بهجة، وكيف وجدت فيها سبل الحياة، وكيف بث فيها الدواب المختلفة المتنوعة
تفكر في خلق الإنسان، هذا المخلوق العجيب، تفكر في تكوينه، في باطنه وظاهره، كيف تهيأت له سبل الحياة، وكيف سخرت له سائر المخلوقات، كيف جاء هذا الإنسان إلى هذا العالم، ولماذا جاء، وأين سيذهب، عندها توقن بمعنى قول الباري أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، وأنكم إلينا لا ترجعون
هذا الإنسان مخلوق كريم، تفكر في خلقه كيف يسمع وكيف يبصر وكيف يتنفس وكيف يتذوق وكيف يعقل، جسم يقوم على أجهزة دقيقة معقدة، يتألف من خلايا متنوعة في العظم واللحم والدم والعصب والجلد والعيون، خلايا لها وظائف مختلفة، يبلغ عددها في الجسم الواحد (مئة تريليون خلية تقريبا)، هذه الخلايا نشأت وتكاثرت من خلية واحدة فقط، هي الخلية الناتجة عن اتحاد خلية بويضة الأم مع خلية نطفة الأب، فهو مخلوق من قطرة ماء واحدة، ثم هو يملك (عقلاً وسمعاً وبصراً). {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} ثم تفكر في عدد البشرية منذ ملايين السنين كيف خلقهم ربهم، وهذا عنده كنفس واحدة، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة، تأمل في النفس البشرية، كيف تختلف تلك النفوس في طبائعها وفي أمزجتها، وفي صفاتها كما تختلف في شكلها ولونها، وفي أنفسكم أفلا تبصرون، تفكر كيف قسم الله الأخلاق كما قسم الأرزاق، وكيف أن كل مخلوق مهما صغر تكفل الله برزقه، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. لِلَّهِ فِي الآفَاقِ آيَاتٌ لَعَـ * * * ـلَّ أَقَلَّهَا هُوَ مَا إِلَيْهِ هَدَاكَا
وَلَعَلَّ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ آيَاتِهِ * * * عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْنَاكَا
وَالْكَوْنُ مَشْحُونٌ بِأَسْرَارٍ إِذَا * * * حَاوَلْتَ تَفْسِيرًا لَهَا أَعْيَاكَا
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
الخطبة الثانية: عبادة التفكر هي العبادة الصامتة التي لا تحتاج إلى قول أو فعل، وهي عبادة يغفل عنها كثير من الخلق، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ، والتفكر في خلق الله له آثار عظيمة في حياة المسلم، فمن آثار التفكر في ملكوت السماء والأرض أنه يهدي للإيمان حين يكشف عن عظمة الخالق الموجد سبحانه، ويجعل المرء يقر بوحدانية الله تعالى، سئل أعرابي عن الدليل فقال: البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أما تدل على الصانع الحكيم العليم القدير؟." وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ". وكما يهدي التفكر للإيمان بالله العظيم، الخالق الموجد، فهو يدل أيضاً على أن ما سوى الله مما يعبد عاجز عن الخلق والإيجاد ولو لشيء حقير {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} ومن آثار التفكر في خلق الله أنه يورث العلم والحكمة، ويحيي القلب، ويغرس فيه الخوف والخشية من الله عز وجل. قال بعض السلف: ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل، وقال بعضهم: لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل، والله يقول : " إنما يخشى الله من عباده العلماء" أَلا إِنَّنـا كُـلَّنـا بائِـدُ ** وَأَيُّ بَنـي آدَمٍ خالِـدُ
وَبَدؤُهُـمُ كانَ مِن رَبِّهِـم ** وَكُـلٌّ إِلى رَبِّـهِ عائِـدُ
فَيا عَجَبا كَيفَ يُعصى الإِله ** أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِد
وَلِلَّهِ فـي كُـلِّ تَحريكَـةٍ ** عَلَينا وَتَسكينَةٍ شاهِـدُ
وَفـي كُـلِّ شَيءٍ لَهُ آيـَةٌ ** تَدُلُّ عَلى أَنّـَهُ واحِـدُ
ومن آثار التفكر أن يعلم المؤمن أن الكون بما فيه مسخر في خدمة هذا الإنسان المكرم (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يقول بعض السلف: (إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة). ومن آثار التفكر في خلق الله تحصيل العلم النافع واكتشاف المعارف، فالكون كتاب مفتوح يقرأ بكل لغة ويدرك بكل عقل، فهو صنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي أعطى كل شيء خلقة ثم هدى. ومن آثار التفكر في خلق الله أن يرى الإنسان ضعفه وعجزه، وأنه هباءة في هذا الكون الفسيح، فيتواضع لعظمة الله ولا يتكبر على خلقه، بل يقر بتقصيره في جنب الله تعالى، مهما قدم وعمل،{ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ومن آثار التفكر في خلق الله تعالى الاطلاع على بديع صنع الله، والعلم اليقيني بحكمة المولى سبحانه الموجود لتلك المخلوقات الهائلة المنتظمة، فهي ليست نتيجة مراحل عشوائية، ولا حصيلة مصادفات عمياء ، بل هو خلق بديع متناسق متقن، دال على حكمة الخالق، وكمال علمه وسعة إحاطته، وأنه وسع كرسيه السموات والأرض، وأنه لايؤده حفظهما وأنه هو العلي العظيم فيدرك المتأمل العاقل أن هذا الكون بما فيه لم يُخلق عبثاً ولا باطلاً، فحاشا حكمة الله سبحانه ذلك، أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }
3/5/1437 هـ
الحمد لله...
أما بعد.
أيها الإخوة المؤمنون: قص علينا ربنا في القرآن الكريم أحسن القصص، والمقصود الأعظم من قصص القرآن العبرة لا مجرد الحكاية، فهي قصص وأخبار واقعية صادقة معجزة، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)
وأحسن القصص قصص الأنبياء والرسل، وهي أكثر القصص في القرآن الكريم، قصها الله لأخذ العبرة وتقويم المسيرة وتصحيح المفاهيم، ومن قصص الأنبياء التي أعادها الله وكررها في القرآن، قصة نبي الله ذي النون، يونس عليه الصلاة والسلام، فقد ذكر الله لنا هذه القصة في القرآن إشارة أو تفصيلاً في نحو خمسة مواضع.
إنه يونس بن متى، سماه الله ذا النون، ونون اسم من أسماء الحوت، فهو صاحب الحوت، وهو من أنبياء بني إسرائيل عاش في أرض الموصل في العراق، وبعثه الله إلى أهل نينوى، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، فلم يستجيبوا لدعوته، وكذبوه أول الأمر، فحزن على ذلك وضاق صدره، وخرج من بينهم بعد ما أنذرهم عذاب الله، حيث سنته التي لا تتغير في القوم المجرمين المكذبين، ولكن قومه حين خرج من عندهم ورأوا مخايل العذاب، ندموا وآمنوا وتضرعوا، وقيل إنهم خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم ونسائهم وأنعامهم، وجأروا إلى الله بالدعاء والبكاء، والاستغفار والتوبة، فكشف الله عنهم غمة العذاب؛ فكانت هي القرية الوحيدة التي نجت من عذاب الله بعد تحققه، ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾.
أما نبي الله يونس فقد خرج غضبان أسفا، لم يتحمل صدود قومه وتكذيبهم، ولم يصبر، وقد عرّض الله بهذا، فقال لنبيه : (فاصبر لحكم ربك، ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم)، خرج يونس ظاناً أنه سيجد أرضاً أرحب وأوسع، ولم يظن أن الله سيضيق عليه، وأنه سيكون في أضيق مكان، (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه) أي نضيق عليه، خرج يونس واتجه إلى البحر، وركب مع جماعة في سفينة مشحونة، حتى إذا كانوا في عرض البحر، توقفت السفينة عن الجريان، وقيل إنها اضطربت بهم الأمواج، فخافوا الهلاك، فقال نبي الله يونس - عليه السلام - كما روى ابن أبي حاتم وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بسند صحيح كما قال ابن حجر: " إِنَّ مَعَهُمْ عَبْدًا آبِقًا مِنْ رَبِّهِ (أي: هارب)، وَإِنَّهَا لَا تَسِيرُ حَتَّى تُلْقُوهُ، فَقَالُوا: لَا نُلْقِيكَ - يَا نَبِيَّ اللَّهِ - أَبَدًا. قَالَ: فَاقْتَرَعُوا؛ فَخَرَجَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ - وهذا معنى قول الله سبحانه، فساهم فكان من المدحضين – أي المغلوبين، قال ابن كثير : وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، فَقَامَ يُونُسُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ -فِيمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ-حُوتًا يَشُقُّ الْبِحَارَ، حَتَّى جَاءَ فَالْتَقَمَ يُونُسَ حِينَ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ السَّفِينَةِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ الْحُوتِ أَلَّا تَأْكُلَ لَهُ لَحْمًا، وَلَا تُهَشِّمَ لَهُ عَظْمًا؛ فَإِنَّ يُونُسَ لَيْسَ لَكَ رِزْقًا، وَإِنَّمَا بَطْنُكَ لَهُ يَكُونُ سِجْنًا، وهكذا يظهر حفظ الله لعبده الصالح، وحين أحاط به الكرب، وتغشّاه الغم، في بطن الحوت، وقد غشيته ظلمته مع ظلمة البحر وظلمة الليل، نادى ربَّه في هذه الظلمات بلسان الحال والمقال: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين ﴾، روى أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَنَّ يُونُسَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلَمَّاتِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَ: "اللَّهُمَّ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ". فَأَقْبَلَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ تَحُفُّ بِالْعَرْشِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ؟ فَقَالَ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَاكَ؟ قَالُوا: لَا يَا رَبِّ، وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ، قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرفَع لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ، وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: يَا رَبِّ، أَوَلا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ؛ فتنجيَه مِنَ الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى. فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ فِي الْعَرَاءِ " رواه ابن أبي حاتم بإسناد يتقوى بغيره كما قال ابن كثير. هكذا تصنع صالحات الرخاء في مواطن الشدة! ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ .
ويذكر الله لنا في القرآن أن الحوت طرح يونس في العراء، (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) عراء قفر من الأشجار، وهو سقيم منهك الجسد ، كهيئة الفرخ الذي ليس عليه ريش، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -؛ فأنبت الله له اليقطين؛ (فأنبتنا عليه شجرة من يقطين)وهو شجرة القرع التي تمتاز بسرعة الإنبات، وجودة الغذاء وتقويته للجسم، وتظليل ورقه، ونعومته، وعدم قربان الذباب لها كما قال العلماء.
وأنت بفضلٍ منك نجيت يونسا وقد بات في أضعاف حوتٍ لياليا
فأنبتَّ يقطيناً عليه برحمة من الله لولا اللهُ أصبح ضاويا
ثم عاد عليه السلام بعد هذا البلاء؛ فتاب عليه، واجتباه، وجعله من الصالحين، وأرجعه الله مسروراً إلى قومه المؤمنين.
أيها الإخوة: إن ما قدَّره الله على نبيه يونس عليه السلام لا يقلّل من شأنه، بل لا ينبغي لأحدٍ أن يقع في نفسه أنه خير منه، ولذا ورد في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى".
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: أعظم عبرة من قصة نبي الله يونس أن الله لطيف بعباده إذا دعوه وصدقوا في التوجه إليه، بل إن لطفه ورحمته ليس لها حد، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، فلا غوث إلى من الله ولا نجاة من الهموم والكروب والظلمات إلا من الله، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)، إنه الاعتصام بحبل الله وتوحيده سبحانه، ونداء الفطرة (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ)، إنه أعظم نداء، وأعظم دعوة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ"، رواه أحمد وغيره بسند حسن.، ففي قصة يونس - عليه السلام - بشارة لكل مؤمن مهموم مكروب، يصدق في دعائه والتجائه إلى الله، ويوقن بقرب الفرج منه سبحانه ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وبعد أيها الإخوة: فلئن كان يونس عليه السلام نادى ربه في ظلمات الحوت والبحر والليل، وهي ظلمات محسوسة، فإن كثيراً منا اليوم يعيش في ظلمات الجهل والغفلة والهوى والمعصية، ولا منقذ من تلك الظلمات إلا رحمة الله، فهلا كان شعار كل مسرف وعاص لا إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
10/5/1437 هـ
الحمد لله..
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
إن كل مسلم صادق يطلب رضا الله وجنته يهمه أمر الثبات على دين الله، ويخاف من الزيغ والضلال عن طريق الله القويم وصراطه المستقيم، ويزداد الخوف من الزيغ والضلال في وقت ضعف الدين والتدين وانتشار الفتن والمغريات، من الشبهات والشهوات، وقد صوّر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صعوبة الثبات على الدين في زمن الفتن بقوله كما في المسند والسنن بسند صحيح: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ».
أيها الإخوة المؤمنون: إذا كثرت الفتن وهبت رياحها، زادت الحاجة إلى طلب الثبات، والنظر في أسبابه، ولعلي أقف معكم على أهم الأسباب المثبتة للمؤمن على دين الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجعل ذلك حجة لنا لا علينا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة.
فأول أسباب الثبات على الدين أن يعلم المؤمن حاجته لذلك وأن يشعر أن موضوع الثبات مرتبط بالقلب، تلك المضغة الخطيرة، التي تتقلب على صاحبها، جاء في الحديث الحسن " لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا"، وفي حديث آخر صححه بعضهم: «مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلَاةٍ» وما سمي الإنسان إلا لنسيه *** ولا القلب إلا أنه يتقلب
إن الشعور بخطورة الزيغ والنكوص عن دين الله هو الباعث على طلب الثبات، وطلب الثبات يكون من الله سبحانه، فلا ثبات ولا هداية ولا توفيق من غير سببه جلّ في علاه، ألم يقل سبحانه لخير خلقه وأكرمهم عليه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ، لذلك قال صلوات وسلامه عليه، «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» أخرجه مسلم. وكان صلوات ربي وسلامه عليه يكثر أن يقول في دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فلما قيل له في ذلك قال: "إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ ". ولهذا كان من أدعية القرآن التي يدعو بها الصالحون: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا).
ومن أسباب الثبات الإيمان الصادق {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة}،وفي صحيح البخاري في قصة هرقل مع أبي سفيان، لما قال هرقل : "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟" قال أبو سفيان: لا. قال هرقل: "وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب"
ومن أسباب الثبات المحافظة على العمل الصالح ولو قلّ، ففي الحديث المتفق عليه «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه، فالمثابرة والمداومة على الصالحات سبب للثبات، وقد وعد الله سبحانه بذلك، فقال {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}
ومن أسباب الثبات النظر في القرآن الكريم وتلاوته والإقبال عليه تعلماً وعملاً، فالقرآن هو حبل الله المتين، الذي من تمسك به هُدي إلى صراط مستقيم، وقد نص الله على ذلك، فقال: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، وقال {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
ومن أسباب الثبات كثرة ذكر الله تعالى، وهذا أمر مشاهد محسوس، فالمكثر لللذكر في الصباح والمساء وفي كل وقت مطمئن القلب {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وقد جعل الله كثرة الذكر سبباً في صلاته على عباده وإخراجهم من الظلمات إلى النور، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}، وفي خصوص الثبات في الجهاد يقول سبحانه{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
ومن أسباب الثبات نصر دين الله والانتصار له، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، نصر دين الله سبحانه يكون بالدعوة إليه ومحبة أهل الدين، والدفاع عنهم، وبغض ما عليه الكفار والمنافقين والعصاة، نصر دين الله بالبذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه البر والخير والتعليم ونشر الدعوة.
ومن أسباب الثبات النظر في حقيقة الدنيا وتأمل قرب الأجل، وتذكر نعيم الجنة، وقد كان صلى الله وسلم يثبت أصحابه بتذكيرهم بالجنة، ويقول: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ»
ومن أسباب الثبات النظر في سير الصالحين من الأنبياء ومن بعدهم، نظراً وتدبراً، يقود للتأثر والتأسي والقدوة،{ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }
الخطبة الثانية:
ومن أسباب الثبات ترك المعاصي والذنوب، صغيرها وكبيرها، جاء في الحديث الصحيح " إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ "
ومن أسباب الثبات لزوم مجالس الخير والبعد عن مجالس السوء، فإن مجالس السوء تورد الشهوات والشبهات وتنشب أظفارها في القلوب حتى الهلاك.وحتى تعلموا أيها الإخوة قوة تأثير البيئة المحيطة والأصحاب على فكر الإنسان وعمل الإنسان، تأملوا ما جاء في الصحيحين في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأنه سأل عن رجل عالم فقال له: "من يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها إناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء".
ومن أسباب الثبات ترك الظلم، فالظالمون للناس المتسلطون على حقوقهم الواقعون في أعراضهم معرضون للزيغ والضلال، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}
19/4/1437 هـ
الحمد لله.
أيّها المسلمون، دين الإسلام دين سعادة ورحمة للبشرية، جاءت تعاليم الإسلام بالمصالح والخيرات والبركات، ولقد كان من أعظم تلك التعاليم التي اهتم بها الإسلام الأمر بصلة الرحم.
الأمر بصلة الرحم جاء مقروناً ببر الوالدين بعد توحيد الله{وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ}. الأمر بصلة الرحم جاء مقترناً بأركان الإسلام في أحاديث كثيرة، جاء رجلٌ إلى النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أخبِرني بعملٍ يدخلني الجنّة، قال: ((تعبد الله ولا تشرِك به شيئًا، وتقيمُ الصلاة، وتؤتي الزكاةَ، وتصِلُ الرّحم)) متفق عليه، الأمر بصلة الرحم مسطور في كتب الأمم السابقة{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ٱلْقُرْبَىٰ}، الأمر بصلة الرحم من أولويات دعوة محمد صلوات الله وسلامه عليه، قال عبد الله بن سلام: لمّا قدم النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ انجفلَ الناس إليه ـ أي: ذهَبوا إليه ـ فكان أوّل شيء سمعتُه تكلَّم به أن قال: ((يا أيّها الناس، أفشوا السّلام، وأطعِموا الطّعام، وصِلوا الأرحامَ، وصَلّوا بالليل والنّاس نِيام، تدخلوا الجنّة بسلام)).
أيها الإخوة المؤمنون: صلة الرحم عنوان على الإيمان في الحديث المتفق عليه ((من كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحِمَه)) صلة الرحم برٌّ بالوالدَين سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا، جاء رجل إلى النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هل بقيَ من برّ أبويَّ شيءٌ أبرّهما به بعد موتهما؟ قال:(نعم، الدعاءُ لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذُ عهدِهما مِن بعدهما، وصِلة رحمِك التي لا رحمَ لك إلاّ من قِبَلهما).
واصل الرحم موصول برحمة الله وإحسانه قال النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((قال الله للرّحم: أما ترضينَ أن أصلَ من وصلك وأن أقطعَ من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) متفق عليه، ((والرحمُ معلّقة بالعرش تقول: مَن وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)).
واصل الرحم يصله كلُ خير فهو مبارك في رزقه وعمره، في الصحيحين ((من أحبَّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسَأ له في أثَره فليصِل رحمَه))،
واصل الرحم لا يسقط في حياته، وإن سقط أصاب متكأ، فصلته لرحمه تدفع عنه البلايا والرزايا، اسمعوا ما ذا قالت خديجة رضي الله عنها لنبينا صلى الله عليه وسلم لما خشي على نفسه ورجع يرجف فؤاده، في أول نزول الوحي عليه، قالت له خديجة: كلاّ والله، لا يخزيكَ الله أبدًا؛ إنّك لتصلُ الرّحم، وتحمِل الكَلّ، وتكسِب المعدومَ، وتَقري الضّيف. رواه البخاري.
الأرحام مقدمون في كتاب الله على الفقراء والمساكين عند البذل والعطاء والرأفة والنفقة {يَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوٰلِدَيْنِ وَٱلأقْرَبِينَ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ}.{وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ}. ذلك أن ثواب البذل عليهم مضاعف ضعفين، قال عليه الصّلاة والسّلام: ((الصدقةُ على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان صدقةٌ وصِلة). وإليكم أيها الإخوة مثالاً عملياً تطبيقياً يبين فضل الصدقة والبذل لأبناء العم والأخوال، أما البذل لأبناء العم فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أكْثَرَ الأنْصَارِ بالمَدينَةِ مَالاً مِنْ نَخل، وَكَانَ أحَبُّ أمْوَاله إِلَيْهِ بَيْرَحاء، وَكَانَتْ مسْتَقْبَلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّب، فَلَمَّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إنَّ الله تبارك وتَعَالَى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ تعالى، أرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ الله تَعَالَى، فَضَعْهَا يَا رَسُول الله! حَيْثُ أرَاكَ الله. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَخ! ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ، ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ! وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبينَ» ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يَا رَسُول الله! فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ في أقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
هذا في بني العم أما الأخوال فإليكم هذا المثال عَنْ أم المؤمنين مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ، كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ» متفق عليه. ألا ما أعظم الإسلام حين يقوي الأواصر وينشر الرحمة بين الأقارب، فيتعاونون على البر والتقوى، الأقوال بينهم طيبة، والزيارات متكررة، والاجتماعات منتظمة، المعروف بينهم مبذول، والاعتذار حين الخطأ مقبول، والمسامحة شعارهم، فما أجمل حياتهم، وما أكمل سعادتهم.
إن الاجتماع مع الإخوة والأعمام والأخوال وأبنائهم اجتماع رحمة وقربة وهو عبادة من أجل العبادات، يقول عمرو بن دينار: "ما مِن خطوة بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خطوةٍ إلى ذي الرّحم".
الاجتماع مع الأقارب دليل على كمال العقل وسعة الأفق، وزكاء المعدن، وكرم النفس وجميل الوفاء.
والأقارب التي تجب صلتهم درجات بعضها أرفع من بعض، فمنها ما هو واجب كالمحارم ومنها ما هو مندوب، والصلة تكون بالمال والزيارة والسلام وتختلف بحسب القدرة والحاجة.
أيها الإخوة: واصل الرحم عاقل لبيب، يدرك معنى الرحم، ويدرك أن الله هو الذي أمر بوصلها.
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلألْبَـٰبِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ }.
الخطبة الثانية: أيّها الإخوة المسلمون: من رام رحماً وأقارباً معصومين من الزلل والخطأ فقد رام مستحيلاً، وجهل سنة الله في خلق البشر، فالخلق في جبلتهم الخطأ، والخطأ ليس مبرراً للقطيعة، جاء رجلٌ إلى النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ الله، إنّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عليهم ويجهَلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام:(لئن كان كما تقول فكأنّما تسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمتَ على ذلك)رواه مسلم، وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام:(ليسَ الواصل بالمكافئ، ولكنّ الواصلَ مَن إذا قطعَت رحمُه وصَلها).
وبعد أيها الإخوة: فإن قاطع الرحم منقطع من رحمة الله، في صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنّةَ قاطع)، فقطيعة الرّحم كبيرة مِن كبائر الذّنوب، متوَعَّد صاحبُها باللّعنةِ والعقوبة {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ}، فتأملوا كيف قرن الله بين الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، ذلكم أن القطيعة من أعظم المفسدات لأخلاق المجتمع، بل القطيعة عنوان الذل والصغار، والتفرق والضعف، وهي جالبة للغم والنكد والقلق لكل من بلي بها. (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)
5/4/1437 هـ
الحمد لله...
أيها الإخوة المؤمنون: الأمن على الأنفس والأموال ضرورة من ضروريات الحياة، جاء الدين الإسلامي بالتأكيد على هذه الضرورة وحمايتها من العبث، وجعل الحد الأشد في جريمة الحرابة وقطع الطرق الآمنة وإشاعة الفوضى والاضطرابات، وترويع الناس والاعتداء على الأنفس والأموال والممتلكات، هل سمعتم في القرآن عقوبة أشد من قول الله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34).
إن شرع الله سبحانه كله رحمة وحكمة، وإن تطبيق حدود الله تعالى في الأرض نعمة كبرى، بها يحفظ الله الأمن وبها تصلح أحوال الناس، وفي تطبيق الحدود من الخيرات والبركات ما لا يعلمه إلا الله، في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا)).
أيها الإخوة: شرع الله تَعَالَى حد الردة حماية لحرمة الدين، وشرع القصاص في النفس والأطراف حمايةً لحرمة النفس، وشرع حد الخمر حماية لحرمة العقل، وشرع تعالى حد الزنا وحد القذف حماية لحرمة الأعراض، وشرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حد السرقة حماية لحرمة المال، وجاء حدُّ الحِرابة وقطع الطرق الآمنة أغلظ الحدود؛ لأن الحرابة وقطع الطريق فيها البغي على الناس وترويع الآمنين وضياع كل الحرمات.
أيها الإخوة: تطبيق الحدود امتثال لأمر الله الحكيم، تطبيق الحدود نفع عام للأفراد والجماعات والدول، تطبيق الحدود ردع وزجر للمجرمين، وتخويف للمتربصين، وتضييق لمجال الجريمة وحد من انتشارها؛ تطبيق الحدود والقصاص في الجرائم حياة للفرد والأمة ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تطبيق الحدود حسم لمادة الفوضى، واستتباب للأمن، ودفع للفتن.
أيها الإخوة المؤمنون: إننا بحمد الله تَعَالَى في هذه البلاد المباركة بلاد الحرمين ننعم بنعمة الأمن، فالناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وربكم سبحانه هو الحافظ وهو المنعم، ووالله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ما استتب الأمن بمثل طاعة الله واتباع شرعه، خاصة تحصيل التوحيد، توحيد الله تَعَالَى، والتوجه إليه دون غيره، وطهارة البلاد من الشرك والشركيات، وحتى تعلموا هذه الحقيقة المسطورة في كتاب الله اقرأوا قول الله تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)، جاء تفسير الظلم الوارد في الآية بالشرك كما في الصحيحين.
إن إقامة حَدِّ الحرابة والقصاص والتعزير بالقتل الذي أعلنته الدولة وفقها الله هذه الأيام أبلغ من ألف خطبة وموعظة، وأبلغ من ألف خطاب وكتاب.
السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
لقد عرف الناس عمليًّا، أن جزاء العابثين بالأمن والمخلين به والمروعين والمفجرين والمفسدين والمحرضين هو السيف ولا شيء غير السيف، ذلك ليعلم الجميع أن أمننا خطر أحمر لا ينبغي الاقتراب منه، وأن المساس بالأمن ضياع للوطن، ومكتسباته ومقدراته، بل ضياع الأمن ضياع للدين، لقد دعا أولئك الإرهابيون إلى الخروج على الإمام الشرعي، لقصد تفريق الأمة، وإشاعة الفوضى، وإسقاط الدولة، وترتب على ذلك إثارة الفتنة، وإزهاق كثير من الأنفس البريئة من رجال الأمن وغيرهم، وإتلاف الممتلكات العامة، إن أولئك يعتقدون عدم شرعية أنظمة هذه البلاد، ويطعنون في نزاهة القضاء الشرعي، ويريدون إسقاط هيبة الدولة وحكامها ورجال أمنها، بل يريدون إسقاط هيبة علماء المسلمين الربانيين، ولذلك جاء هذا الحكم القضائي الحازم بقتل أولئك، بعضهم حداً وقصاصاً، وبعضهم تعزيراً، بناء على النظام الشرعي المعتمد على نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» وفي رواية في صحيح مسلم: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»، والإمام المقصود به حاكم ذلك البلد، وإن تعدد الحكام في أقطار المسلمين، يقول الشوكاني:" بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته، وتباعد أطرافه فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه".
عسى الله أن يكف بأس الغلاة وأعوانهم، وأن يكفي المسلمين شرهم، وأن يلقي الرعب في قلوبهم. اللهم يا حي يا قيوم اجزي خادم الحرمين خير الجزاء، اللهم احفظه بحفظك، وارفع منزلته في الدارين، وانصر به الإسلام والمسلمين.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
الخطبة الثانية:
إن على كل مسلم يتبع منهج أهل السنة أن يكثر الدعاء لولاة الأمر في هذا البلد وأن يشكر لهم، وأن يدعو لهم بالتوفيق والتسديد والإعانة.
إِنَّ الجَمَـاعَةَ حَبْـلُ اللهِ فَاعْتَصِمُوا***مِنْهُ بِعُرْوَتِـهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَى
كَمْ يَرْفَـع اللهُ بِالسُّلْطَانِ مَظْلَمَـةً *** في دِينِنَـا رَحْمَةً مِنْهُ وَدُنْيَانَا
لَوْلاَ الْخِلاَفَةُ لَمْ تَأْمَنْ لَنَا سُبُـلٌ*** وَكَـانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لأَقْوَانَا
نسأل الله جلا وعلا أن يزيد هذه البلاد قوة إلى قوتها، وأن يديم عليها النعم، وأن يحفظها من كيد الكائدين ومكر الماكرين، وأن يوفق خادم الحرمين ونائبيه وحكومته ومستشاريه لما فيه صلاح العباد والبلاد.
28/3/1437 هـ
الحمد لله...
أما بعد.
فيا أيها الإخوة المؤمنون: جاء في الحديث الصحيح عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْخَيْرُ عَادَةٌ، وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
قال أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم الخير عادة معناه أن النفس تعود إلى الخير وتألفه، وتحرص عليه، لموافقته أصل الفطرة، وذلك لئن الإنسان مجبول ومفطور على الخير،{فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، وقوله "والشر لجاجة": لما فيه من العوج وضيق النفس والكرب، واللجاج أكثر ما تستعمل في المراجعة في الشيء المضمر بشؤم الطبع بغير تدبر عاقبة، ويسمى فاعله لجوجاً، كأنه أخذ من لجة البحر وهي أخطر ما فيه.
أيها الإخوة: هذا الحديث من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الحكمة التي أوتيها صلوات الله وسلامه عليه، نعم الخير عادة حكمة يصدقها الواقع والتجربة، ولعلي هنا أذكر نفسي وإخواني ببعض الخير الذي تعتاده النفس الطيبة حتى يصير سجية وطبعاً، يأتيه الإنسان دون أدنى تكلف.
فمن ذلك أيها الإخوة فعل الطاعات والعبادات، من صلاة وصيام وصدقات، فصلاة الضحى مثلاً عبادة جليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بها، وأخبر أنها صلاة الأوابين، وإذا اعتادها الإنسان سهلت عليه، وسنة الوضوء عبادة يغفل عنها الكثير، وإذا تعودها الإنسان صارت سبباً في الفوز بالجنة، والوتر عبادة فاضلة، بل هو أفضل صلوات التطوع، ومن عوّد نفسه عليه قبل النوم أو في آخر الليل سهل عليه وألفه وأنس به، والسنة الراتبة بعد الصلاة عادة راتبة للمؤمن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها، ووعد من حافظ عليها بأن يبنى له بيت في الجنة.
والتبكير إلى المساجد والحرص على إدراك الصلاة تامة مع الإمام، عادة الخاشعين، ودأب الأخيار والصالحين، وهي علامة صدق الإيمان واليقين، وكذا التبكير لصلاة الجمعة عادة وقربة تساوي أجر المتصدقين بالمال العظيم.
والمكث في المسجد بعد الصلاة عبادة جليلة سماها جماعة من السلف السجن المبارك، لأن المصلي ما دام جالساً في مصلاه تستغفر له الملائكة وتدعو له حتى يقوم، كما ثبت في الصحيح، فمن اعتاد الجلوس بعد الفريضة بضع دقائق للذكر والاستغفار فقد ربح استغفار الملائكة، ومن اعتاد السرعة في الانصراف فقد فوت على نفسه هذا الخير.
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر عبادة جزؤها من الله وحده، وقد كان النبي صلى الله عليه يوصي بها، وأخبر كما في الصحيحين أنه يعدل صيام الدهر، ومن اعتاد صوم ثلاثة أيام من كل شهر سهل عليه الصيام وأحبه ولم يتركه إلا من عذر.
والصدقة بالمال برهان صدق الإيمان، ومن اعتاد التبرع بشيء من ماله لفقير يتعرف عليه ويطعمه كل شهر بما تيسر، أو باشتراكه الشهري أو السنوي في جمعية خيرية تعليمية أو إغاثية، من اعتاد ذلك وجد بركة وتوفيقاً وسعادة لا توصف، وكل ذلك من العادات الطيبة التي لا تقوى عليها إلا النفوس الخيرة الكبيرة.
وبر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة، ومن اعتاد الجلوس والأنس مع والديه، وإدخال السرور عليهما ، كل يوم، أو الاتصال كل يوم في حال البعد، فقد اعتاد لقلبه رقة ورحمة، وعطفاً وإحساناً أمر الله به بعد عبادته (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين أحساناً)، كما أن الدعاء للوالدين عادة الصالحين، أو ولد صالح يدعو له، وزيارة الأرحام عبادة جليلة، فمن اعتاد الصلة بزيارة رحمه، أو حضور اجتماعهم، كل أسبوع أو شهر أو أكثر، فقد فتح لنفسه باب رحمة وتوفيق وسعة رزق وأثر جميل، ومن اعتاد زيارة بعض كبار السن من الأقارب والجيران وأصدقاء الوالدين كل أسبوع مرة أو أكثر فقد اعتاد الوفاء والبركة في العمر كله.
وقراءة حزب من القرآن كل يوم نور وهداية، وعبادة عظيمة عظيمة، فالقرآن به حياة القلب وانشراح الصدر، ومن تعود على حزب منه ولو قليل وجد الأمن والراحة والطمأنية ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، والمداومة على ذكر الله تعالى في الصباح والمساء وعند النوم واليقظة، والدخول والخروج، وفي كل شأن يشرع ذكر الله فيه، شأن الموفقين، ومن فعل ذلك فقد سبق القوم من غير تعب، في صحيح مسلم: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ»، ورفع اليدين بالدعاء عادة أهل التأله والعبادة، فإن الدعاء هو العبادة.
أيها الإخوة: والكلمة الطيبة والمنطق الحسن وجميل القول عادة وتربية يعتادها ويتربى عليها العاقل اللبيب، والمؤمن الصالح، اعترض كلب في طريق عيسى عليه السلام فقال: اذهب عافاك الله فقيل له: تخاطب به كلباً؟ قال: لسان عودته الخير فتعود.
والرضا والقناعة والشكر وكثرة الحمد عادة تجلب المزيد من النعيم وتحفظها، والصبر الجميل على نوائب الدهر ومصاعب الحياة عادة الأقوياء في إيمانهم، والحلم والهدوء وترويض النفس على كظم الغيظ عادة، بل من خير العادات، وإنما الحلم بالتحلم، والسماحة والعفو والصفح الجميل عادة للكرماء، الذين يعذرون الناس ويحبون عفو الله عنهم ومغفرته، (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم).
ورقة القلب وسلامته ونظافته عادة يدرب المسلم نفسه عليها، وفي بعض الآثار:" عودوا قلوبكم الرقة".
والغفلة عن الناس وعدم تتبع أخبارهم عادة حسنة، وهي من حسن إسلام المرء المسلم.
والابتسامة الصافية الصادقة عادة لبعض الوجوه المسفرة، وهي صدقة نافعة تنشر الحب والمودة، وتدل على نفس راضية مطمئنة.
والنظافة في الملبس والمظهر وحسن الهندام عادة جميلة يحبها الله فالله جميل يحب الجمال.
وإتقان العمل والانضباط والجد واحترام النظام عادات حضارية دعا إليها الدين، وفي الحديث الحسن : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
وترشيد استهلاك الماء والكهرباء والوقود والصرف في كماليات الحياة عادة حياتية طيبة، يقوم بها الموفقون الشاكرون لنعم الله تعالى.
أيها المؤمنون: إن النفس إذا اعتادت على شيء ألفته وقامت به بسهولة، حتى يكون هذا الشيء جزءا من حياة الإنسان لا يستطيع التخلي عنه بحال، واسألوا إن شئتم أهل قيام الليل، وأهل الصيام، وأهل الخير والصدقة، وأهل المكث في المساجد والتبكير إلى الصلوات، اسألوا كيف تحصل لهم الراحة واللذة، وكيف أن هذه الأعمال التعبدية الكبيرة والشاقة في نظر بعض الناس صارت عندهم سهلة ويسيرة.
(فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى)
الخطبة الثانية: أيها الإخوة: إن واجباً على الآباء أن يربوا أبناءهم على عادات الخير، وأن يعودوهم على الأفعال الطيبة من صلاة وبر وإحسان، واحترام للكبار، وإحسان للنية ونظافة للقلب، وعناية بالمظهر والنظام.
وينشأ ناشء الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «حَافِظُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلِّمُوهُمُ الْخَيْرَ فَإِنَّمَا الْخَيْرُ عَادَةٌ».
هل تعلمون أيها الإخوة من الذي يتعود على فعل الخير إنه المؤمن الذي ينشرح صدره للخير فيصير له عادة، روي عن أبي الدرداء أنه قال: " تعود العبادة فإن لها عادة".
ولقد كان بعض السلف إذا فاتته صلاة الجماعة أو فاته خير يعمله في العادة كفر عن ذلك، ليدرب نفسه على الخير ويحملها عليه، فيصوم يومًا، أو يتصدق بصدقة.
العادات الطيبة لا تقبل التأجيل ولا التسويف، فالتسويف عادة المفلسين، روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " تَعَوَّدُوا الْخَيْرَ عَادَةً، وَإِيَّاكُمْ وَعَادَةَ السَّوَافِ مِنْ سَوْفَ إِلَى سَوْفَ "
أيها الإخوة : إن النفس أي نفس تحتاج إلى تمرين حتى تألف الأعمال وتحبها، وحتى تكون عندها العزيمة والهمة، هذا التمرين هو المجاهدة وهو ما ذكره الله بقوله : «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا»، وتأمل قول الله سبلنا، فهي طرق للخير متنوعة كثيرة كلها توصل إلى مرضاة الله، ولن يغير الله ما في الإنسان حتى يكون التغيير منه: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ»، وإهمال النفس فيه عطبها وهلاكها وغفلتها، وهو العجز والكسل الذي كان نبيكم يستعيذ منه،ويقول" اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل" والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
إن من لا يعتاد الخير ولا يصل إليه يخشى عليه من سخط الله سبحانه، فإن الله سبحانه يكره أعمال بعض الناس، ألم تسمعوا ربكم سبحانه يقول في حق المتأخرين والمتثاقلين عن الجهاد مع رسوله : (ولكن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}.
21/3/1437 هـ
التفاصيل
مدخل
على المسلم أن يستشعر نعمة الله عليه إذا وفقه لزيارة مدينة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومسجده ، ويستحضر في قلبه شرف المدينة ، إذ هي حرم رسول الله ، ودار هجرته ،ومهبط وحيه ، ومثواه بعد موته ، بها قامت دولة الإسلام ، وانتشر منها نور الهداية إلى جميع بقاع الأرض،وهي أفضل البقاع بعد مكة ، من أرادها بسوء أذابه الله ، كما يذوب الملح في الماء.
أحكام زيارة المسجد النبوي:
1- مشروعية السفر: يشرع السفر من أجل الصلاة في مسجد النبي في أي وقت؛ لحديث"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى. رواه مسلم ، وذلك لما لمسجده صلى الله عليه وسلم من فضيلة عظيمة حيث تضاعف العبادة، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } [متفق عليه].
2- السفر لا علاقة له بالحج:السفر من أجل الصلاة في مسجد النبي لا علاقة له بالحج؛ وعليه فليس من سنن الحج أو كماله زيارة المسجد النبوي قبل الحج أو بعده، بل يشرع السفر في أي وقت في العام.
3- ما يفعله إذا دخل المسجد: إذا وصل المسلم إلى المسجد استحب له ما يستحب عند دخول كل مسجد، فيذكر دعاء دخول المسجد، ثم يصلي ركعتين تحية المسجد.
4 – فضل الصلاة في المسجد النبوي: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } [متفق عليه].
5 – الصلاة في الروضة الشريفة: الأفضل أن تكون النافلة في الروضة الشريفة ، بدون إيذاء للآخرين، وموضع الروضة ما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وحجرته، لقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على حوضي) ، ويدعو فيهما بما أحب من خيري الدنيا والآخرة ، وأما صلاة الفريضة فينبغي للزائر وغيره أن يحافظ عليها في الصفوف الأول
6- زيارة القبر: وبعد الصلاة يستحب أن يذهب إلى قبر النبي وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويسلم عليهم، كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل إذا قدم من سفر،. فيقف مواجها القبر الشريف, مستحضرا في قلبه جلالة ومنزلة من هو بحضرته, ثم يسلم, قائلاً : " السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته" ، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي صيغة من صيغ الصلاة عليه ، كأن يقول: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"، وإن قال: " أشهد أنك قد بلغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ونصحت الأمة ، وجاهدت في الله حق جهاده ، فلا بأس بذلك ، لأن ذلك كله من أوصافه عليه الصلاة والسلام.
قال أهل العلم : فإن زاد شيئاً يسيرًا من الدعاء لهم دون أن يلتزمه فلا بأس إن شاء تعال، قال ابن تيمية : " وإذا قال في سلامه : السلام عليك يا رسول الله يا نبي الله ، يا خيرة الله من خلقه ، يا أكرم الخلق على ربه ، يا إمام المتقين ، فهذا كله من صفاته بأبي هو وأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكذلك إذا صلى عليه مع السلام عليه فهذا مما أمر الله به.
ثم يتنحى إلى يمينه قليلاً فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه قائلا: السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وثانيه في الغار , جزاك الله عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ثم يتنحى إلى يمينه أيضاً فيسلم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلا : السلام عليك يا عمر الذي أعز الله به الإسلام , جزاك الله عن أمة نبيه صلى الله عليه وسلم خيرا، ويدعو لهما ويترضى عنهما، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لا يزيد على قوله : " السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه . ثم ينصرف" رواه البيهقي . وليس ما ذكرناه من صيغ السلام نصاً لازما، فلو سلم بأي صيغة فيها صفته أجزأه
أخطاء وتبيهات:
1- السفر لأجل الزيارة: يسافر كثير من الناس إلى المدينة بقصد زيارة قبر النبي ، وهذا العمل لا يجوز. والمشروع أن يقصد المسلم بسفره الصلاة في المسجد النبوي، لقوله : { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى} [متفق عليه].
2- زيارة النساء: زيارة قبر النبي وصاحبيه والبقيع وغيرها من القبور خاص بالرجال؛ أما النساء ليس لهن زيارة شيء من القبور؛ لقول النبي : { لعن الله زوّارات القبور } [حديث صحيح،أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة].
3- التمسح بالقبر: لا يجوز لاحد أن يتمسح بالمنبر ولا بالحجرة التي فيها قبر النبي وصاحبيه رضي الله عنهما، ولا أن يقبلها، أو يطوف بها؛ فإن هذا كله بدعة منكرة. قال ابن الصلاح : " .. وليس من السنة أن يمس الجدار ويقبله " وقال النووي : " .. ويكره مسحه باليد وتقبيله ، بل الأدب أن يبعد عنه كما يبعد منه لو حضر في حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، هذا هو الصواب وهو الذي قاله العلماء ، وأطبقوا عليه ، وينبغي ألا يغتر بكثير من العوام في مخالفتهم ذلك
4- الدعاء عند القبر:لا يجوز لأحد أن يسأل الرسول ولا غيره قضاء حاجة، أو تفريج كربة، أو شفاء مريض، أو أن يشفع له في الآخرة، أو نحو ذلك؛ لأن هذا كله لا يطلب إلا من الله سبحانه، وطلبه من الأموات شرك بالله تعالى، ودين الإسلام مبني على أصلين : أحدهما : ألا يعبد إلا الله وحده ، والثاني : ألا يعبد إلا بما شرعه الله والرسول - صلى الله عليه وسلم.
5- من الأعمال المبتدعة ما يفعله بعض الزوار من رفع الصوت عند قبره ، وطول القيام، وتحري الدعاء عند قبره، وقد يستقبل القبر رافعاً يديه يدعو، وكذا ما يفعله بعض الناس من استقبال القبر من بعيد وتحريك شفتيه بالسلام او الدعاء، أو تكرار زيارة القبر النبوي بعد كل صلاة أو كلما دخل المسجد أو خرج منه؛ وهذا كله خلاف ما عليه السلف الصالح من أصحاب النبي واتباعهم بإحسان، بل هو من البدع المحدثة.
ما يباح زيارته في المدينة:
1- مسجد قباء:ويستحب لمن كان بالمدينة أن يتطهر في بيته ثم يأتي مسجد قباء ويصلي فيه ركعتين؛ لقول النبي : { من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له كأجر عمرة } [حديث صحيح أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما].
2- ويستحب أن يزور مقبرة البقيع وقبور شهداء أحد؛ لأن النبي كان يزورهم ويدعو لهم؛ ولعموم قوله : { كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها } [أخرجه مسلم].
وكان النبي يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: { السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية } [أخرجه مسلم].
3 – هذا ما يشرع زيارته لمن زار المدينة، وما عدا ذلك فلا يشرع؛ كالمساجد السبعة، ومسجد القبلتين وغيرها، وكذا الذهاب مع مَنْ يُسمّوْن (بالمزورين) لتلقينهم الأدعية.
وفي ختام هذه الحلقة ننبه على أنه مما يجب معرفته أن البناء على القبور من قباب وغيرها أو بناء المساجد على القبور، أو دفن الموتى في المساجد من أعظم المحرمات التي حذر منها النبي أشد التحذير في نصوص كثيرة منها:
أ- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله في مرضه الذي لم يقم منه: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } [متفق عليه].
ب- وعن عائشة أيضاً أن ام حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله فقال: { إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } [أخرجه مسلم].
أما وجود قبر النبي في المسجد؛ فإن النبي لم يدفن في المسجد، وإنما دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها، وكانت حجرتها خارج المسجد، واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة. ثم وسع المسجد في خلافة الوليد بن عبدالملك وأدخلت فيه الحجرة (فتاوى ابن تيمية 27/323).وكان الواجب ألا تكون التوسعة من جهة قبر النبي ، وإنما تكون من الجهات الثلاثة الأخرى، فيبقى القبر خارج المسجد، كما حصل في توسعة عمر وعثمان رضي الله عنهما للمسجد
التفاصيلآخر أعمال الحج في منى ؟ المبيت ورمي الجمار.
أولاً : المبيت بمنى
1 – حكمه : المبيت بمنى ليالي أيام التشريق واجب عند جمهور الفقهاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، تقول عائشة رضي الله عنها: أفاض رسول الله من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق،وقال ابن عمر رضي الله عنهما : لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أن يبيت بمكة إلا للعباس من أجل سقايته.
هناك قول هو مذهب الحنفية، وفي قول للشافعية، ورواية عن الإمام أحمد: أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق سنة وليس بواجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم " رخص للعباس أن يبيت بمكة من أجل سقايته " كما في البخاري، ولو كان ذلك واجبا لم يكن للعباس أن يترك الواجب لأجل السقاية، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص له في ذلك، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم محمول على السنة توفيقا بين الدليلين.
والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق كلها إنما هو بالنسبة لغير المتعجل، أما من تعجل فليس عليه سوى مبيت ليلتين فقط، ولا إثم عليه في ترك مبيت الليلة الثالثة للآية الكريمة.
2 - ترك المبيت بمنى ليالي التشريق من غير عذر: من قال من أهل العلم إن هذا المبيت واجب وهو قول جمهور الفقهاء، قال بوجوب الجزاء فيه إذا ترك كل المبيت أي كل الليالي. وأوجب جماعة من الفقهاء في ترك المبيت كله دما واحدا، وفي ترك ليلة مدا من الطعام، وفي ترك ليلتين مدين، إذا بات ليلة واحدة، إلا إذا ترك المبيت لعذر فلا شيء عليه، كما سيأتي. وعند القائلين بأن المبيت سنة فقد أساء لتركه السنة ولا شيء عليه.
3 - القدر الواجب من المبيت بمنى: هو مكث أكثر الليل عند جمهور الفقهاء، فإذا مكث بمنى مدة تزيد على نصف الليلة فقد أدى واجب المبيت.
4 - الإعفاء من المبيت بمنى: يسقط المبيت بمنى عن ذوي الأعذار كأهل السقاية والرعاة في الزمن الماضي ، وكأهل المسؤوليات العامة أو الخاصة ، وكالمرضى ومن في حكمهم.لحديث ابن عمر أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له أخرجه مسلم، ولحديث عاصم بن عدى: " أن النبى صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل فى البيتوتة " رواه الخمسة وصححه الترمذى.
كما يسقط هذا الواجب عن كل من لم يجد مكاناً في منى، فيبيت خارجها، والمقصود بالمكان هو مكان المبيت في المخيمات ، أما الساحات والشوارع وطرق المشاة أو السيارات فهذه ليست مكاناً حتى لو كان فيها سعة، فمن وجد هناك مكاناً للمرور أو ساحات للتوسعة على الحجاج فليس له أن يشغلها بالنوم فيها، وافتراشها، لأن في ذلك استغلالاً للمكان في غير ما وضع له، ولأن فيه تضييقاً، وربما جرّ إلى مفاسد أمنية وصحية، ويعظم الخطأ إذا كان الافتراش من العوائل والنساء، فهو مفسدة بلا شك، فهل يرضى عاقل أن يجعل أهله يضطجعون في قارعة الطريق أمام الآلف بل مئات الألاف من الناس.....
5 - مستحبات المبيت بمنى يستحب للحاج أيام منى الإكثار من الذكر والدعاء والتكبير، لما جاء في الحديث: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله . أي هي أيام إفطار لا يجوز الصيام فيها، وأيام إكثار من ذكر الله تعالى بأنواع الذكر.
ثانياً: رمي الجمار
1 - معنى رمي الجمار والمقصود منها.
الجمرات جمع الجمرة، وهي في اللغة الحصاة، فالجمار الأحجار الصغار .
والجمرات هي: المواضع التي ترمى بالحصيات، وهي بمنى، والأولى منها هي التي تلي مسجد الخيف، والوسطى التي بينها وبين جمرة العقبة والأخيرة جمرة العقبة، وهي أقرب الثلاث إلى مكة.
والمقصود من رمي الجمار التعبد لله تعالى وحده بما لا حظ للنفس فيه، قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بيان أسرار الحج من الإحياء: وأما رمي الجمار فليقصد به الانقياد للأمر إظهارا للرق والعبودية، وانتهاضا لمجرد الامتثال من غير حظ للنفس والعقل في ذلك، ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة أو يفتنه بمعصية، أمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردا له وقطعا لأمله، ورد في بعض الأحاديث أن إبليس عرض له هنالك أي وسوس له ليشغله عن أداء المناسك فكان يرميه كل مرة فيخنس ثم يعود، أخرجه أحمد .
2 - حكم الرمي: رمي الجمار واجب في الحج باتفاق الفقهاء، ويجب في تركه دم، وعدد الجمار سبعون: سبعة لرمي جمرة العقبة يوم النحر والباقي لثلاثة أيام منى كل يوم ثلاث جمرات بإحدى وعشرين، وذلك لمن لم يتعجل، أما للمتعجل فتسعة وأربعون .
3 - صفة جمار الرمي: تكون من حجر، من كل أنواع الحجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى وأمر بالرمي بمثل حصى الخذف، فلا يتناول غيره، رواه مسلم.
4 - حجم الجمار: تكون قدر الفولة، وقيل: قدر الحمصة، أو النواة، أو الأنملة.
وهذا بيان المندوب، ويجوز الرمي بالأكبر مع الكراهة. والأصل فيه حديث مسلم: عليكم بحصى الخذف .
5 - مكان التقاط الجمار: لا خلاف في جواز أخذها من حيث كان، وكره بعضهم أخذها من عند الجمرة.
6 - كيفية رمي الجمار: يرمي الجمرة سبعا بسبع حصيات، فلو رماها دفعة واحدة كانت عن واحدة. ويكبر مع كل حصاة. فإذا كان اليوم الثاني من أيام النحر رمى الجمار الثلاث بعد الزوال يبتدئ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، وكذلك في اليوم الثالث والرابع إن أقام. وإن نفر إلى مكة في اليوم الثالث سقط عنه رمي اليوم الرابع
7 - من ترك الرمي: عند أكثر الفقهاء يجب الدم على من ترك الرمي كله أو ترك رمي يوم أو يومين أو ترك ثلاث حصيات من رمي أي جمرة، أما من ترك الحصاة أو الحصاتين روايات. قال في المغني: الظاهر عن أحمد أنه لا شيء عليه في حصاة ولا حصاتين .
8 - وقت رمي الجمار: الوقت المسموح لرمي الجمار في الأيام الثلاث فوقتها بعد الزوال، وفي الرمي قبل الزوال خلاف بين الفقهاء، الأكثر على منعه، وجوزه جماعة من الفقهاء، والناس اليوم يرمي بعضهم قبل الزوال فمن رمى مقتدياً بقول عالم فرميه صحيح.
9 – الذكر حال الرمي: يشرع للحاج التكبير مع كل حصاة يرميها، كما يشرع له الدعاء بين كل جمرتين فيدعو بعد الأولى والثانية فقط، وقد ثبتت السنة بهذا.
10 - تعجيل الحاج بالنفر من منى: يجوز للحاج التعجل في اليوم الثاني من أيام الرمي، لقوله تعالى {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى} وشرط جوازه عند الجمهور أن يخرج الحاج من منى قبل الغروب، لأن اليوم اسم للنهار، فمن أدركه الليل فما تعجل في يومين، وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال " من غربت عليه الشمس وهو بمنى، فلا ينفرن، حتى يرمي الجمار من أوسط أيام التشريق، ولم يشترط الحنفية ذلك، وقالوا: له أن ينفر بعد الغروب مع الكراهة، ما لم يطلع فجر اليوم الثالث، وذلك لأنه لم يدخل اليوم الآخر، فجاز له النفر، كما قبل الغروب.
وقال أكثر أهل العلم: الآية على العموم، والرخصة لجميع الناس، أهل مكة وغيرهم، سواء أراد الخارج من منى المقام بمكة، أو الشخوص إلى بلده.
واختلف الفقهاء في الأفضلية بين التعجيل والتأخير، فذهب الجمهور: إلى أن تأخير النفر إلى الثالث أفضل، للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وذهب المالكية: إلى أنه لا تفضيل بين التعجيل والتأخير، بل هما مستويان.ونص الفقهاء على كراهة التعجيل للإمام، لأجل من يتأخر. وأما ثمرة التعجيل فهي سقوط رمي اليوم الثالث، ومبيت ليلته عنه.
آخر أعمال الحج في مكة المكرمة:
طواف الوداع، هل هو من أعمال الحج؟
الجواب: لا، إنما هو عملٌ للحاج الذي قدم إلى مكة في حجّ، أنه إذا أراد المسير والخروج من مكة، لا يخرج إلا وقد طاف بالبيت.
فما يفهمه الناس من أن آخر أعمال الحج، هو طواف الوداع، هذا نوع من الخطأ في الفهم، أن الحجاج يتم حجهم باكتمال رمي الجمار، في يوم الثاني عشر، إن كان متعجّلاً، أو في يوم الثالث عشر.
النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الناس ينصرفون في كل جهة، بعد رميهم الجمار في يوم الثاني عشر، قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ) [مسلم] وفي الرواية الأخرى قال ابن عباس: (أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ) [متفق عليه]، فهذا من إجلال هذه البقعة، هم ما جاءوا إلا لهذا البيت العتيق لتعظيمه وإجلاله على الوجه الّذي أمرهم الله تعالى به، لذلك شرع الله تعالى أن يكون أول ما يأتي القادم إلى مكة، أن يبتدئ بالبيت طوافاً، وهذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد الصَّدر والخروج من مكة، يكون آخر عهده بالبيت.
وهو واجب في أصحّ قولي العلماء، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه سنة، واجب على من أراد النفرة من مكة للخروج منها إلى بلاده، ولا فرق فيه بين المرأة والرجل والصغير والكبير، كل من حجّ فإنه يأتي لطواف الوداع.
هذا الطواف خُفّف على الحائض، لما أُخبر بأن صفية حائض، قال صلى الله عليه وسلم: (أحابستُنا هي؟) وقد جاء به النص: (أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ) [متفق عليه]، فلها أن تمضي، ولا تحتاج إلى طواف، مثل الحائض المرضى الّذين لا يستطيعون، أو أولئك أيضاً الّذين تلحقهم مشقّة، في المجيء لكونهم لا يستطيعون البقاء لخشية فوات الرّفقة أو الرّحلة.
لكن الذي يريد أن يغادر مكة لحاجة ويرجع، مثل الحجاج الّذين يذهبون مع بعض رفقتهم، لتوصيلهم إلى المطار، أو يذهبون إلى جدة، لقضاء بعض اللوازم ويرجعون إلى مكة، يعني ما زال مكة هي مقر إقامتهم، هؤلاء لا يلزمهم أن يطوفوا للوداع إلا عند الخروج النهائي من مكة.
إذا طاف للوداع، فإنه ينبغي أن يغادر مكة، بمعنى أنه لا يجوز له أن يبقى، بقاءً اختياريّاً لكن لو أنه بقي لأجل انتظار رفقة، طاف أو احتاج إلى شراء بعض اللوازم في طريقه لقضاء حوائج يحتاجها أو غير ذلك من البقاء العارض الّذي ليس مقصوداً لذاته، فإنه لا حرج عليه بعد ذلك، ولو حصل وتعطل سيره واحتاج إلى المبيت، فلا يحتاج إلى أن يعيد الطواف مرّة ثانية، لأن هذا البقاء وهذا التأخر لم يكن باختياره ولا بإرادته فلا حرج عليه، هذا ما يتصل بجملة من الأحكام المتصلة بطواف الوداع، وما يكون من الحاج في آخر نسكه وعند مغادرته مكة.
التفاصيلعلاقة الحج بالتربية
وقفات إيمانية وروحية، وعلمية وتربوية ، مع بعض الدروس والعبر التي نتعلمها في مدرسة الحج، وإن شئت فقل "جامعة الحج"، ننهل منها إشارات وإضاءات تبين روح الإسلام وعظمته، وعظمة الخالق سبحانه وحكمة مالك الملك، ورحمة الرحمن الرحيم. وهي من المنافع التي أخبر الله عنها بقوله "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ".
ولعل من أبرز تلك الدروس التربوية وتتبع ذلك يطول جدا ما يلي:
أولاً: كمال توحيد الله عز وجل وعبادته وطاعته :والتزام ذلك منهجا في الحياة.
إن أعظم مقصود وغاية لبناء البيت وإيجاب قصد الناس إليه من أرجاءِ المعمورة لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله سبحانه لا شريكَ له، "وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" والمتأمل للأعمال والأذكار التي يقوم بها الحاج خلال رحلة الحج يجد أنه يلهج بتوحيد الله _عز وجل_ من أول منسكه إلى نهايته كما في حديث جابر _رضي الله عنه_ في وصف حجة النبي _صلى الله عليه و سلم_ قال :" فأهل بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك لبيك" رواه مسلم .
ثانياً : الاقتداء و التأسي بالنبي _صلى الله عليه وسلم_:
مدرسة الحج تربي الفرد والمجتمع المسلم على الاقتداء بالنبي _صلى الله عليه وسلم_ فالحاج يربي نفسه على متابعة هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في جميع شؤون الحياة فإن متابعة الحاج لهدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في مناسك الحج استجابة لقوله _صلى الله عليه وسلم_ :" خذوا عني مناسككم" تربية للحاج أن يلتزم هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في جميع ما يأتي و ما يذر.
ثالثاً: زيادة التقوى ومراقبة الله تذكر الآخرة والزهد في الدنيا، هذه المعاني نجدها متمثلة في مشاعر الحج، بل إن الله _تعالى_ أمر بالتقوى في سياق آيات الحج، فقال _تعالى_: "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ" ، مما يحمل المسلم الحاج على مراقبة الله العظيم مراقبة ذاتية داخلية من قبل النفس فكل عمل يعمله يعلمه الله ، وقد نهاه الله _عز وجل_ عن الرفث والفسوق والجدال تربية وتهذيباً لسلوكه "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ" ، فمن بداية الحج إلى تمامه والمسلم يراقب الله تعالى ويلزم التقوى فلا يقترب من محظورات الإحرام، وإن وقع منه خطأ فإنه يسأل ويكفر عن هذا المحظور خوفاً من نقصان العمل ومراقبة لله سبحانه.
رابعاً : الوحدة الإسلامية:
مدرسة الحج تربي الفرد و المجتمع و الأمة و العالم الإسلامي على مبدأ من أعظم مبادئ هذا الدين ألا و هو مبدأ الوحدة الإسلامية فالحاج يدرك أن الحج شعار الوحدة، فإن الحج جعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم، فلا فضل لأحد على أحد: الملك والمملوك، الغني والفقير، الوجيه والحقير، الكل في ميزان واحد.
فالناس سواسية في الحقوق والواجبات، وهم سواسية في هذا البيت لا فضل للساكن فيه على الباد والمسافر، فهم كلهم متساوون في البيت الحرام، لا فرق بين الألوان والجنسيات، وليس لأحد أن يفرق بينهم. وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، وحدة في الهدف، وحدة في العمل، وحدة في القول "الناس من آدم، وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" أكثر من مليوني مسلم يقفون كلهم في موقف واحد، وبلباس واحد، لهدف واحد، وتحت شعار واحد، يدعون رباً واحداً، ويتبعون نبياً واحداً.. وأي وحدة أعظم من هذه" . هذه الوحدة ينبغي أن تنتج
خامساً : الجسد الواحد: يربيتا الحج على أن المسلمين في كل صقع من أصقاع الأرض مهما شطت بهم الديار و اختلقت الأوطان فهم جسد واحد..عن النعمان بن بشير _رضي الله عنه_ قال : قال _صلى الله عليه وسلم_ :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه البخاري و مسلم.تأتي مدرسة الحج لتزيل العزلة الشعورية التي يعيشها المسلمون حيال قضاياهم و مشاكلهم و آمالهم و آلامهم.
ويبقى دروس أخرى ومنافع لأهل الإسلام نقف معها بعد هذا التقرير....
ثامناً: تربية النفس و ترويضها على الصبر و تحمل المشاق :
علاقة الحج بالصبر ؟
من أظهر الدروس التي تتضح بجلاء في مدرسة الحج التربية على الصبر وتحمل المشاق في سبيل مرضاة الله قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ".
والصبر من خير ما يوفق له المؤمن، فعن أبي سعيد الخدري قال : قال صلى الله عليه وسلم:" ما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصَّبر" رواه الخمسة.
و قال عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_: وجدنا خير عيشنا بالصبر.
وقال ابن قيم الجوزية _رحمه الله_ : "إن الله سبحانه جعل الصبر جواداً لا يكبو و صارماً لا ينبو و جنداً لا يهزم و حصن حصيناً لا يهدم و لا يثلم".
ولذلك تجتمع في الحج أنواع الصبر الثلاثة .... ويمكن أن ندرك بعض تلك المعاني
أولاً : الصبر على الطاعة، والتقيد بأداء العبادة على أكمل وجه وأحسن صورة، ولذلك قال _تعالى_: " فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ".
ثم في تربية على الطاعة للنظام والترتيبات ، التي يجعلها ولاة الأمر، وأن هذا من ذات الإسلام وليس من خصائص ديار الكفر.
وثانياً : الصبر عن المعصية والتقيد بما قيده الشرع وحدده، ويظهر هذا من خلال المواقيت وتحديدها وعدم تعديها، وعدم إتيان شي من المخالفات والمحذورات حتى لو كانت النفس تشتهيها، ولذلك يتربى المسلم على قهر النفس عما تشتهي ما دام الشرع يحرمه، فالطيب وتغطية الرأس وجميع المحظورات يتركها المسلم مع شهوته لها لا لشيء إلا لأجل تحريم الشرع إياها.
وثالثاً: الصبر على الأمور المؤلمة مما يأتي قدراً ، ولهذا في الحج يتربى المسلم على التكيف في حال تغير العادة، والوضع الذي تعود عليه الإنسان. ثم التربي على الجانب الاحتسابي في تلك المشقة والتكاليف جاء في الصحيحين عن عائشة «إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك» وأخرج مسلم عن جابر، قال: كانت دارنا نائية من المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((إن لكم بكل خطوة درجة)) .
قال النووي:(ولكنها على قدر نصبك أو قال نفقتك) هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع وكذا النفقة.
فتح الباري لابن حجر: وهو كما قال لكن ليس ذلك بمطرد فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهو أكثر فضلا وثوابا بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة القدر وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام.
ولهذا قال ابن القيم : أن الأجر إنما هو مترتب على تفاوت المصالح لا على تفاوت المشاق لأن الله سبحانه وتعالى لم يطلب من عباده المشقة والعناء وإنما طلب جلب المصالح ودفع المفاسد وإنما قال أفضل العبادة أحمزها أي أشقها وأجرك على قدر نصبك لأن الفعل إذا لم يكن شاقا كان حظ النفس فيه كثيرا فيقل الإخلاص فإذا كثرت المشقة كان ذلك دليلا على أنه جعل خالصا لله عز وجل فالثواب في الحقيقة مرتب على مراتب الإخلاص لا على مراتب المشقة.
رابعاً: الثقة بنصر الله للإسلام والمسلمين : فمدرسة الحج تزرع في النفس الثقة بنصرة الدين و التمكين له و أنه مهما طال ليل الباطل فإن فلق الصبح وفجره قريب.، وما تجمع العدد الغفير من المسلمين في أيام الحج من كل فج عميق إلا بشارة بفجر جديد قريب لعز الإسلام والمسلمين، وتزداد ثقته ويقوى يقينه بنصر الله للإسلام و المسلمين، و أن المستقبل لهذا الدين، "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإسْلامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ" رواه أحمد، وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ _صلى الله عليه وسلم_ قَالَ:"بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ" رواه أحمد وابنه عبد الله في زوائده والحاكم، وقال: صحيح، ووافقه الذهبي وصححه الألباني.
خامساً : التربية على الأخلاق الفاضلة: الحج مدرسة للتربية على الأخلاق الفاضلة من الحلم و العفو و الصفح و التسامح و الإيثار و الرحمة و التعاون و الإحسان و البذل و الكرم و الجود، فهي رحلة تسفر عن أخلاق الرجال و تسهم إسهاماً عظيماً في تعديل السلوك السيئ إلى الحسن، فكم من حاج عاد من رحلة حجه بوجه غير الذي ذهب به قال _تعالى_ :" الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ". وفي قوله تعالى (ولا جدال)
سادسا :التربية للناس عملية على فقه الخلاف، ويظهر هذا من خلال ما يلي:
أ ـ اختلاف الناس في أنواع النسك. ب ـ اختلاف الناس في أعمال يوم النحر.
ج ـ اختلاف الناس في الذكر حال الانصراف من منى إلى عرفة، "منا الملبي ومنا المكبر".
د ـ اختلاف الناس حال الانصراف من مزدلفة إلى منى من حيث العجز وعدمه.
هـ ـ اختلاف الناس حال التعجل من مكة أو التأجيل.
و-اختلاف الناس حال التقصير أو الحلق.
فكل هذه مواقف تربوية للناس على فقه التعامل مع الخلاف والمخالف، ولم ينقل لنا أن الصحابة دار بينهم نقاش واتهام في سبب اختيار نسك على آخر، ولو كان المختار نوعاً مفضولاً وليس فاضلاً.
تيسيراً لا تعسيراً:
اليسر والسهولة ورفع المشقة سمة من سمات دين الإسلام، وتظهر صور ذلك بينة في الحج، ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنه_ عندما وقف النبي _صلى الله عليه وسلم_ في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه. قال: فما سئل النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال: افعل ولا حرج، وكذلك الرخصة لذوي الأعذار كما أذن النبي _صلى الله عليه وسلم_ للعباس بن عبد المطلب _رضي الله عنه_ أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، والإذن للضعفة من النساء والصبيان بالإفاضة من مزدلفة ليلاً ورمي جمرة العقبة قبل وقتها، وغير ذلك من شواهد التيسير والبعد عن التعسير على الحجاج، بل إن التخيير عند الأمر فيه من التيسير والتسهيل الشيء الكبير، فأنت مخير في حجك بين التمتع والقران والإفراد، ومخير بين الحلق والتقصير، ثم أنت مخير في التعجل أو التأخر نهاية الحج.
ذاتية التربية والمراقبة ولزوم التقوى:
إن من أوضح ما يراه من يتأمل في الحج ذلك التنظيم الدقيق وإلزام الحاج بالانضباط والجدية، فمن بداية رحلة الحج المباركة إلى نهايتها نجد حدوداً واضحة مكانية وزمانية، فالحدود المكانية هي مواقيت الحج المحددة التي لا يجوز تجاوزها لمن أراد الحج من غير أهل مكة، وكذلك أماكن الطواف والسعي وغيرها، أما الحدود الزمانية مما حدد من المناسك بوقت معين كالوقوف بعرفة والخروج منها والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار وغير ذلك، ومن التنظيم الملاحظ في الحج إلزام الجميع لباساً واحداً له صفة معينة، وكذا بيان المحظورات التي تخل بالإحرام.
كل هذه حدود من الشارع _عز وجل_ "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (البقرة: من الآية229)، وقال _تعالى_: "وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ" (الطلاق: من الآية1)، وبوب البخاري في كتاب الحج "باب أمر النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالسكينة عند الإفاضة وإشارته إليهم بالسوط" وفيه أنه لما دفع النبي _صلى الله عليه وسلم_ يوم عرفة سمع من ورائه زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل فأشار بسوطه إليهم، وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع – أي الإسراع – فانظر أخي الكريم إلى هذه المعاني العظيمة التي يُربى عليها المسلم في الحج من حب النظام والانضباط وتقوية روح الجدية فيرجع المسلمون إلى أهليهم بهذه المعاني التربوية القيمة.
التنظيم والانضباط والجدية:
التآلف والتعارف بين المسلمين والعطف المتبادل:
في أيام الحج تظهر أجمل وأردع معاني الأخوّة، ونكون كما أخبر المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً".
والحج تربية للتآلف والتعارف والتواد والتقارب بين المسلمين لا فضل بيننا إلا بالتقوى، والله _تعالى_ يقول في سورة الحج: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" (الحج:28)، وقال _سبحانه_: "فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ" (الحج: من الآية36)، نعم يعلّم الله عباده ويربي حجاج بيته أن يتساعدوا ويتعاونوا ويعطف بعضهم على بعض ويطعم الغني الفقير ويساعد القوي الضعيف لترسخ بعد ذلك معاني مهمة في التكاتف والتعاون.
تكريم المرأة وصيانتها:
المرأة، وما أدراك ما المرأة؟ اتخذها مَن في قلبه مرض طريقاً لمقاصدهم الضالة وسلماً لأمنياتهم المشبوهة في إفساد المجتمع وتغريب الأمة فزعموا – جاهلين أو متجاهلين – ظلم المرأة وإهانتها وبخسها حقوقها وحريتها في المجتمع المسلم، وإنا نقول بأعلى الأصوات: لا يوجد دين أو ملة أو قانون أعطى المرأة حقوقها وكرمها ورفعها وصانها إلا الإسلام ولا فخر، حتى تمنى بعض نساء الغرب أن يعشن حياة المرأة المسلمة في مكانتها وعفتها وسعادتها بتربية أبنائها وعزها بحجابها لما قاست المرأة الغربية الكافرة من ظلم وإهانة واحتقار، وفي الحج صور متعددة من تكريم المرأة ورعايتها وصيانتها، فعندما قام ذلك الرجل، وقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "اذهب فحج مع امرأتك".
ولما لم يلزم الإسلام المرأة بالجهاد حفاظاً عليها وتقديراً لضعفها أبدلها الله مكانه الحج والعمرة، فعن عائشة _رضي الله عنها_ أنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: "نعم عليهم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" رواه أحمد وابن ماجة، وتأمل معي – أخي الكريم – ما ورد في الحديث المتفق عليه أن عائشة _رضي الله عنها_ قالت:" دخل عليَّ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا هنتاه؟ قلت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة. قال: وما شأنك؟ قلت: لا أصلي. قال: فلا يضيرك! إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها". أليس في هذا تكريم للمرأة وسؤال عن حالها وتطييب لخاطرها واهتمام بشؤونها ويا ليت قومي يعلمون هذا! ليتهم يدركون ما في الالتزام بمنهج الإسلام في التعامل مع المرأة ورعايتها في كنفه من حفاظ على أخلاقيات المجتمع وصيانة للأمة من كل أنواع الفساد الاجتماعي والتربوي والأخلاقي، الذي يعيشه العالم المادي اليوم ونراه عياناً هنا وهناك.
ومما يستفاد من الحج أيضاً التعويد على ذكر الله ودعائه،
سادساً : ذكر الله:
مدرسة الحج تربي الحاج على ذكر الله، فالذكر هو أول المقاصد التي أرادها الله من عبادة الحج، قال _تعالى_: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات". ورحلة الحج من بدايتها إلى نهايتا ذكر لله _عز وجل_ فالحاج يذكر الله بالتلبية، و خلال الطواف، وخلال السعي، و يصعد الحاج إلى عرفات ليدعو الله ويذكره، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال :" خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا و النبيون من قبلي: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" رواه الترمذي . ويغادر الحاج عرفات إلى مزدلفة، إلى المشعر الحرام ليذكر الله قال _تعالى_: " فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" [البقرة:198-199] !
20ـ تربية للناس على الدعاء، ففي المناسك أغلب المواطن السنة فيها أن يدعو المسلم ربه _سبحانه_
التفاصيلما هو مفهوم حديث افعل ولا حرج؟
دين الإسلام هو دين الله الذي ارتضاه لخلقه وإليه دعا الأنبياء والمرسلون، (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون)، فلا يقبل من أحد ديناً سواه من الأولين والآخرين، (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) .
وحكم سبحانه بأنه أحسن الأديان ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قيلا، (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلا).
ولقد كان من مقاصد شرعه وأصول دينه العظام: رفع الحرج عن العباد، والتيسير ودفع المشاق، ووضع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم في سالف الأزمان، (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) وكان من دعاء رسوله عليه أتم صلاة وأكمل سلام الوارد في القرآن : (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) ، جاء في صحيح مسلم :"أن الله تعالى قال: (قد فعلت)، فله جل في علاه عظيم الحمد والثناء، ووافر الإحسان والجزاء. نقف مع التقرير...
1 - رفع الحرج من أصول بعثته صلى الله عليه وسلم
(ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) آية كريمة ترسم ملامح الرسالة من خلال صفات نبيها، هذا النبي الخاتم الذي بشر به الأنبياء، وأخذ العهد عليهم بالإيمان به ونصره، ووصف بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث، ويضع عنهم الإصر والأغلال، أي: التكاليف الغليظة التي كانت تكبلهم الشرائع السابقة بها.
إنه تصوير لحالة الضيق والمشقة التي أماطتها هذه الشريعة بالسماحة واليسر.
فالإصر:هو العهد الثقيل. وكل ثقيل فهو إصر؛ لأنه يأصر صاحبه، أي: يحبسه عن الحركة.
أما الأغلال: فجمع غُل بالضم، وهو جامعة الحديد تكون في العنق واليدين. «وقد تكرر ذكرها في القرآن والسنة، ويراد بها التكاليف الشاقة والأعمال المتعبة»
إنه تصوير ناطق يُقدم إلى السامع صورة شخص مكبل بأغلال حديدية، وهو يحمل على كاهله حملًا ثقيلًا ينوء به! فكيف يقوم بوظيفة الاستخلاف؟ إلى أن امتن ـ عليه برسالة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، فكانت كلمة «يضع» هي المفتاح لفك كبله وإماطة الحمل عن ظهره، فلا غل في الشريعة ولا إصر في الحنيفية السمحة.
2 - الأدلة على رفع الحرج في الشريعة: النصوص في هذا متظافرة، والأدلة فيه متكاثرة، حتى قال الشاطبي: «الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع»، ولو ابتغينا تتبعها لطال بنا المقام، ولكن في الإشارة غنية عن العبارة.
قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) [البقرة: 185]، وقال: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً) [النساء: 28]، وقال: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج: 78]، وقال: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة: 286].
وفي سنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مواضع عديدة، ومواقف مختلفة، قولية وفعلية، تدل على هذا الأصل العظيم. فجاء في صحيح مسلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً). وأخرج الشيخان: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا). وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). وأخرج الشيخان عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها قالت: «ما خير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً؛ كان أبعد الناس منه».
2- رفع الحرج والتيسير مقصد أعلى من مقاصد الشريعة.
مما سبق من النصوص يتبين أن التيسير وفع الحرج مقصد من مقاصد التشريع ، وقد في الحديث (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)، وقد بوّب الإمام البخاري على ذلك فقال: كتاب الإيمان، باب الدين يسر. وقوله : (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة).
وقال الشاطبي: «وقد سمى هذا الدين الحنيفية السمحة؛ لما فيها من التسهيل والتيسير»
ولهذا نص غير واحد من الأئممة على أن «كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسر، وهو رفع الحرج، وهو التخفيف » وقال عبدالرحمن بن سعدي في التفسير: «فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح، ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحساناً، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل».
وليس التيسير ورفع الحرج قاعدة فقهية فقط عبر عنها الفقهاء بقولهم: «المشقة تجلب التيسير». وقول الشافعي /: «الأمر إذا ضاق اتسع» إلى غير ذلك من العبارات التي تصب في هذا الجدول، بل رفع الحرج والتيسير مقصد أعلى من مقاصد الشريعة.
4 - وعلى هذه الشاكلة القول بالأخف: ذكر جماعة من أهل العلم أن من قواعد الشريعة أن يستدل بخفة أحد الأمرين المتعارضين على أن الصواب فيه، أو كما قال.استدلالاً بحديث: «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا»، وبناء على هذا المقصد رجح العلماء في قضايا الخلاف التيسير على مر الزمان، إذا ظهر أن القول الراجح يؤدي إلى إعنات ومشقة، وعدلوا عن القياس وخصصوا عموم النصوص، فالقاعدة أن «غلبة المشقة مسقطة للأمر»، قال عليه الصلاة والسلام: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»
5 - من رفع الحرج وجود الخلاف الفقهي : وسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم إلا من رحم ربك [هود:119]، فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها، والحمد لله»
قال ابن عابدين «وعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة، فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر»-: «وهذا يشير إلى الحديث المشهور على ألسنة الناس، وهو: «اختلاف أمتي رحمة». رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس ، ونقل السيوطي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول: «ما سرني أن أصحاب محمدلم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة».
وأخرج الخطيب أن هارون الرشيد قال لمالك بن أنس: يا أبا عبدالله! نكتب هذه الكتب -يعني: مؤلفات الإمام مالك- ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة. قال: «يا أمير المؤمنين! إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكلهم على هدى، وكل يريد الله تعالى».
إذا تقرر ما تقدم من جواز الاختلاف بين أهل الحق، فاعلم أن هذا الاختلاف قد يكون سببًا للتيسير والتسهيل، وبناءً عليه: يوجد في المذاهب كلها العدول عن القول الراجح إلى قول مرجوح، لجلب مصلحة ترجحت، أو درء مفسدة، أو دفع مشقة عرضت.
رفع الحرج ليس مسوغا للتساهل : وإسقاط التكاليف عن المكلفين، وتتبع الرخص، وإشاعتها بين العوام، والفتيا بشاذ الأقوال، وإنما يكون تحقيق هذا المقصد باتباع الكتاب والسنة في هذا، وبذلك يحصل التيسير، ويرتفع الحرج، وتندفع المشقة بين الناس
أبرز أحكام التيسير ورفع الحرج في الحج ؟
1 - التصريح برفع الحرج من الشارع فيمن خالف أفعاله في الحج بقوله: «افعل ولا حرج». دليل لملاحظة مقصد التيسير في الحج، بالإضافة إلى كونه مقصدًا عامًّا في كل مناحي التشريع الإسلامي بالنصوص التي ذكرناها سلفًا، إلا أنه تجدر الإشارة إلى قوله تعالى في آخر آية في سورةالحج بعد أن ذكر أن الحج من أهم موروث من ملة أبينا إبراهيم: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج:78].
2- إن الحج عبادة قرنت بالاستطاعة نصًّا، مع أن كل العبادات يشترط لوجوبها الاستطاعة، قال تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، وجاء في الحديث: «وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا»تشير إلى إرادة التيسير وعدم الإعنات.
3- إن الحج في كثيرٍ من أحكامه مبني على التخيير، والتخيير أساس التيسير، فالحج وقته متسع، فهو واجب على التراخي عند بعض العلماء كالشافعية والمغاربة من المالكية، ويشرع فيه بإحرام بواحد من ثلاثة أنساك على سبيل التخيير، وهي: التمتع والقران والإفراد.
وكذلك التخيير في الفدية: ففدية من صيام أو صدقة أونسك.
4- إن بعض أفعال الحج المختلف فيها بالتقديم والتأخير، كالرمي، لا يوجد بخصوصها دليل قولي من الشارع، وإنما تدخل تحت دلالة الفعل، ودلالة الفعل دلالة ضعيفة، وإن كان مستندًا إلى قوله «خذوا عني مناسككم» مسلم ، ومعلوم أن أفعاله في الحج منها الواجب والمسنون والجائز، فيبقى الاحتمال قائمًا في تعيين أي منها، فقد حج راكبًا، وهو أمر جائز، وقد رتب الرمي والحلق والإفاضة، وقد ثبت عنه رفع الحرج عمن خالف الترتيب. وقد سمح لذوي أعذار خفيفة بترك المبيت بمنى، وبجمع الرمي في يوم واحد. إلى غير ذلك من الرخص .
وعدمُ وجود بيان قولي مما يقرب المسألة من منطقة العفو لاحتمال أن يكون فعله محمولًا على الأفضلية، دون الوجوب، ولهذا يمكن الأخذ بالقول الأخف رعاية لرفع الحرج والمشقة عن الناس، إذا كان لذلك مستند من أصول الشرع.
التفاصيلما هي معاني التلبية والتكبير في الحج؟
تواطأت كل الدعوات واتفقت كل الرّسالات على اختلافها وتنوعها واختلاف زمانها، والأمم التي خوطبت بتلك الرّسالات كلها على أمرٍ واحد، ألا وهو تحقيق العبودية لله جلّ وعلا.
هذا الدين الذي جعله الله تعالى ديناً لجميع الرسل، يقوم على أصول، أصول مشتركة لا تغيب في شريعة من الشرائع، أهمُّ وأكبرُ وأجلُّ ذلك هو لا إله إلا الله، تحقيق العبودية لله، كما قال الله جلّ وعلا في محكم كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} فهذه هي دعوة الرّسل، وهذه هي رسالتهم، فجميعهم جاءوا لتقرير هذا الحق وبيان هذا الأصل، الذي لا تقوم الدنيا ولا تستقيم حياة الناس، كما لا تصلح آخرتهم إلا به، إنه تحقيق هذه الشهادة: لا إله إلا الله.
- إذن أركان الدين مبنية على أصل، وهو تحقيق العبودية لله جلّ وعلا، هذه العبودية وهذا الأصل جعل الله تعالى أعمالاً تغذّيه وتقرّره، وتؤصله وتثبته، فكل الأعمال الأخرى هي تحقيقٌ لهذا المبدأ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
إنّ الإخلاص لله وتوحيده وتعظيمه والرغبة إليه والمحبة له هي أكبر الدروس المستفادة من عبادة الحج، ذلك أنّ الحاج عبر منازل الحج ومناسكه، وفي كلّ أحواله قائماً وقاعداً، يرفع صوته بالتلبية: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). إنّ الحجّ كلّه درسٌ تطبيقيّ في إخلاص الدين لله وحده.
التلبية شعار الحجيج منذ نادى إبراهيم في الناس بالحج ممتثلاً قول الله تعالى:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} لقد كان العرب في الجاهلية يحجون ويلبون، ولكنهم يلبسون حجهم وتلبيتهم بما كانوا عليه من الشرك بالله فيقولون «ليبك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك».
وجاء النبي الخاتم ليعلن التوحيد ويهدم أركان الشرك، لبى بالتوحيد «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»
فما معنى هذه التلبية ...
ذكر الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله أكثر من عشرين معنى وفائدة لكلمات التلبية، فمنها على سبيل الاختصار:
إحداها : أن قولك " لبيك " يتضمن إجابة داع دعاك ومناد ناداك , ولا يصح في لغة ولا عقل إجابة من لا يتكلم ولا يدعو من أجابه .
الثانية : أنها تتضمن المحبة, ولا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه , ولهذا قيل في معناها : أنا مواجه لك بما تحب , وأنها من قولهم : امرأة لبة , أي محبة لولدها .
الثالثة : أنها تتضمن التزام دوام العبودية , ولهذا قيل : هي من الإقامة , أي أنا مقيم على طاعتك.
الرابعة : أنها تتضمن الخضوع والذل , أي خضوعا بعد خضوع , من قولهم . أنا ملب بين يديك , أي خاضع ذليل .
الخامسة : أنها تتضمن الإخلاص , ولهذا قيل . إنها من اللب , وهو الخالص .
السادسة : أنها تتضمن الإقرار بسمع الرب تعالى , إذ يستحيل أن يقول الرجل لبيك لمن لا يسمع دعاءه ، وفي هذا إثبات صفات الكمال لله سبحانه.
السابعة : أنها تتضمن التقرب من الله , ولهذا قيل . إنها من الإلباب , وهو التقرب .
الثامنة : أنها جعلت في الإحرام شعارا لانتقال من حال إلى حال , ومن منسك إلى منسك, كما جعل التكبير في الصلاة سبعا , للانتقال من ركن إلى ركن , ولهذا كانت السنة أن يلبي حتى يشرع في الطواف , فيقطع التلبية , ثم إذا سار لبى حتى يقف بعرفة فيقطعها ثم يلبي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها ثم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة . فيقطعه فالتلبية شعار الحج والتنقل في أعمال المناسك , فالحاج كلما انتقل من ركن إلى ركن قال : " لبيك اللهم لبيك " كما أن المصلي يقول في انتقاله من ركن إلى ركن " الله أكبر " فإذا حل من نسكه قطعها , كما يكون سلام المصلي قاطعا لتكبيره .
التاسعة : أنها شعار لتوحيد ملة إبراهيم , الذي هو روح الحج ومقصده , بل روح العبادات كلها والمقصود منها، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها، كما أن التكبير مفتاح الصلاة.
العاشرة : أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يدخل منه إليه , وهو كلمة الإخلاص والشهادة لله بأنه لا شريك له .
الحادية عشرة : أنها مشتملة على الحمد لله الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله , وأول من يدعى إلى الجنة أهله , وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها.
الثانية عشرة : أنها مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلها , ولهذا عرفها باللام المفيدة للاستغراق , أي النعم كلها لك , وأنت موليها والمنعم بها .
الثالثة عشرة : أنها مشتملة على الاعتراف بأن الملك كله لله وحده , فلا ملك على الحقيقة لغيره .
الرابعة عشرة : أن كلمات التلبية متضمنة للرد على كل مبطل في صفات الله وتوحيده , فإنها مبطلة لقول المشركين على اختلاف طوائفهم ومقالاتهم. الذين كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: "لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك".
ما هي أبرز مظاهر التوحيد في الحج؟
كثير من كتاب اليهود والنصارى في هذا العصر يزعمون أن الحج ومناسكه من شعائر الوثنية التي تسربت إلى الإسلام، ويريدون بهذا الطعن ادعاء تحريف الإسلام بعد أن عجزوا عن التشكيك فيه كرسالة ربانية أنزلها الله تعالى لهداية البشر، ويستدلون على إفكهم المبين بما جاء في التاريخ من حج قبائل العرب وهي على الشرك،
وقد تلقف عنهم هذه الفرية بعض زنادقة هذا العصر ممن يسمون أنفسهم بالمفكرين والمثقفين، وهم في واقع الأمر ملاحدة لا يؤمنون برب العالمين، ولا يصدقون بيوم الدين، وبعضهم يتباكى على هذا التسابق إلى الحج والازدحام عليه وهو لا يعدو أن يكون من بقايا الجاهلية حسب قولهم.
وتالله إنهم لمن أجهل الناس، وأشدهم تكذيبا بالقرآن؛ لأن الحج ومناسكه من الطواف والسعي والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة وغير ذلك جاء ذكره في القرآن، فماذا سيقولون؟!
ثم إنهم من أجهل الناس بالتاريخ وبما يسمى بعلوم الاجتماع وتناقل الحضارات؛ وذلك بنسبتهم شعائر الحج للمشركين؛ إذ من الثابت في التاريخ أن المؤذن بالحج إبراهيم عليه السلام، ثم انحرف الناس في مكة بعد دعوته ودعوة ابنه إسماعيل، وبقيت بقايا من دينهما يتوارثها الناس، وداخلها شيء كثير من التحريف والشرك، كالاعتقاد في الأصنام، وعبادتها من دون الله تعالى، وملء البيت الحرام بها، والتمييز في الحج بين الحمس وغيرهم، والطواف بالبيت عراة وغير ذلك.
فبعث الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام في المكان الذي أذن فيه إبراهيم عليه السلام بالحج؛ ليزيل ما زاده الناس في دينه، وليقضي على أوضار الشرك، ويعيد الناس إلى التوحيد الذي دعاهم إليه إبراهيم عليه السلام، وتم ذلك بحمد الله تعالى، وحج الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على وفق التوحيد الذي أذن به إبراهيم عليه السلام لما بنى البيت.
فقد حج النبي صلى الله عليه وسلم وبين للناس مناسكهم ومشاعرهم ليبقي البيت منارة للتوحيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وجعل يقول للناس «خذوا عني مناسككم» ويقول «قفوا على مشاعر أبيكم إبراهيم» وفي هذا السياق التاريخي والمعنى العظيم يقول الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ويقول: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
أولاً: التلبية شعار المؤمنين الموحدين:التلبية شعار الحجيج منذ نادى إبراهيم في الناس بالحج ممتثلاً قول الله تعالى:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} لقد كان العرب في الجاهلية يحجون ويلبون، ولكنهم يلبسون حجهم وتلبيتهم بما كانوا عليه من الشرك بالله فيقولون «ليبك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك». وجاء النبي الخاتم ليعلن التوحيد ويهدم أركان الشرك، لبى بالتوحيد «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»
ثالثاً: تعظيم البيت من تعظيم رب البيت سبحانه وتعالى: قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ}، وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}، وتعظيم البيت العتيق يكون بالتوجه إليه في الصلاة كما قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، ويكون كذلك بالطواف به، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مما يدل على أن الطواف خاص بهذا البيت فلا يجوز الطواف ببيت غيره على وجه الأرض، لا بالأضرحة ولا بالأشجار ولا بالأحجار ومن هنا يعلم الحاج أن كل طواف بغير البيت العتيق فهو باطل، وليس عبادة لله عز وجل، وإنما هو عبادة لمن شرعه وأمر به من شياطين الإنس والجن.
رابعاً:السعي بين جبلي الصفا والمروة والدعاء والتهليل فيه:لقد كان رسول الله يصعد جبلي الصفا والمروة ويسعى بينهما ممتثلاً أمر الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فيبدأ بجبل الصفا قائلاً «أبدأ بما بدأ الله به» ثم يصعد الجبل ويرفع يديه مستقبلاً البيت معلناً توحيد الله قائلاً «لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثم يدعو بما تيسر رافعا يديه، ويكرر هذا الذكر والدعاء ثلاث مرات رواه مسلم.
خامساً دعاء يوم عرفة: سار النبي بأصحابه إلي عرفة وكان مِن أصحابه الملبِّى، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، حتى إذا أتى الموقفَ، فوقف، واستقبل القِبْلة، فأخذَ في الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وذكر الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال كان أكثرُ دُعاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفة «لا إله إلاَّ اللهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شيء قَدِير».
سادساً: الحج يذكر بمواطن ومشاهد الآخرة: قال بعض العلماء من أعظم معاني التوحيد في الحج أن الحج يذكر الإنسان بالآخرة، ويتجلى هذا حينما يترك الحاج وطنه وبلده وأهله وولده قادماً على الله عز وجل، فيتجرد من ثيابه ويلبس إزاراً ورداءً أبيضين نظيفين كأنهما أكفان الموتى، ويقف مع الحجيج على صعيد عرفات فيتذكر الموقف العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين؛ ولذلك يقولون الحج يعين على تذكر الآخرة.
سابعاً ذكر الله في الحج: فالحاج يأتي ربه ذاكرًا ملبيًا مستجيبًا، قد تجرد من دنياه، وترك بلده وأرضه وأهله وثياب زينته، وأقبل على الله أشعث أغبر مُحْرِمًا، يلبي ويكبر، ويدعو ويستغفر، ويقف عند المشاعر وقد تملكته مشاعر الحب والرغبة والرهبة والخوف والرجاء، ولا يفتر قلبه ولا لسانه عن ذكر ربه وخالقه ومولاه. وقد أمر الله عز وجل الحاج بذكره، وكرر الأمر في مواضع من كتابه العزيز، حتى لا تكاد تجد آية في كتاب الله عز وجل تخاطب الحاج إلا وتجد فيها الأمر بذكر الله عز وجل. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وقد ختمت هذه الآيات بذكر الله تعالى تنويهًا بختام الحج بالذكر، فكما يبدأ الحج بالذكر ينتهي بالذكر هذا، فانظر رحمك الله إلى هذه العبادة الجليلة وما فيها من المشاعر التي تجيش لها المشاعر فتنبض القلوب المؤمنة بذكر الله عز وجل وإعلان الاستجابة لندائه سبحانه والتوجه إليه وحده لا شريك له.
التفاصيلالرابط بين الحج والدعاء:
أمر الله سبحانه عباده بالدعاء ، ووعدهم عليه بالإجابة والإثابة ، وقد جاءت النصوص الشرعية مبينة عظم شأن الدعاء وفضله ومنزلته في الدين، فالدعاء هو العبادة، وهو من أعظم أسباب دفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله، ومن أهم أسباب انشراح الصدر وتفريج الهم وزوال الغم ، وهو مفزع المظلومين وملجأ المستضعفين ، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء . (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)..
وإذا كان هذا شأن الدعاء عموماً فإن الدعاء في الحج أعظم وآكد، وذلك لتوافر مظان الإجابة فيه أكثر من غيره: فالحاج مسافر، والمسافر مستجاب الدعوة كما ثبت في السنة الصحيحة، والحاج مستجاب الدعوة لقوله - عليه الصلاة والسلام كما في بعض السنن بسند صحيح: (الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم وإن سأوه أعطاهم ).
وفي الحج يشتد اضطرار العبد وإخلاصه لله وذلك من أعظم أسباب الإجابة ،كما أن في الحج مواضع عديدة يستحب الدعاء عندها ، وتكون الإجابة فيها أرجى من غيرها.
فمن هذه المواطن :
1- الدعاء في الطواف، وليس هناك دعاء محدد فيه، بل يدعو العبد بما أراد من خيري الدنيا والآخرة ، والمنقول من دعائه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول بين الركنين وهما - الحجر الأسود والركن اليماني - : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ) رواه أبو داود وصححه جماعة من العلماء.
2- الدعاء على الصفا والمروة ، يقول جابر رضي الله عنه وهو يصف حجته - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم : ( فبدأ بالصفا ، فرقى عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحد الله ، وكبَّره ، وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل المروة حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل في الصفا ) .
3- الدعاء يوم عرفة لقوله - صلى الله عليه وسلم- : ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) رواه الترمذي ، وقد ظل نبينا - عليه الصلاة والسلام - في هذا اليوم من بعد الزوال وهو على ناقته رافعاً يديه إلى صدره داعياً مبتهلاً حتى غربت الشمس .
4- الدعاء عند المشعر الحرام في مزدلفة ، يقول جابر في الحديث السابق : ( ثم ركب القصواء حتى إذا أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعاه ، وكبره ، وهلله ، ووحده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدا ) .
5- الدعاء في أيام التشريق عند الجمرتين الصغرى والوسطى، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يقف عندهما بعد أن يرمي فيستقبل القبلة، ويقوم قياماً طويلاً رافعاً يديه يدعو .
وللدعاء شروط وآداب ينبغي مراعاتها والأخذ بها، يأتي في مقدمتها إخلاص الدعاء لله، وإفراده سبحانه بالقصد والتوجه، فلا يدعو إلا الله ولا يسأل أحداً سواه، ولا بد من قوة الرجاء وحضور القلب وعدم الغفلة عند دعائه لقوله - صلى الله عليه وسلم- : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه ) رواه الترمذي
وليقدم بين يدي دعائه الثناء على الله جل وعلا ، والصلاة على - النبي صلى الله عليه وسلم – والإقرار والاعتراف بالذنب والخطيئة ، وعليه أن يلح في دعائه وتضرعه، ويعظم المسألة، ويظهر الفاقة والمسكنة، كما يستحب له أن يتطهر ويستقبل القبلة، ويرفع يديه حال دعائه، وليتخير جوامع الدعاء، والأدعية المأثورة وليبتعد عن السجع المتكلف ، وتنميق العبارات ، وتزويق الألفاظ ، فإن العبرة بما في القلب من صدق التوجه والإقبال على الله ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك .
وعلى الداعي أن يحذر الموانع التي تمنع الإجابة، وأن يطيب مطعمه ومشربه ، هذه بعض آداب الدعاء وشروطه على سبيل الإجمال ، فاحرص - أخي الحاج - على استغلال الأوقات والأحوال الشريفة في هذا الموسم العظيم ، وأكثر من الدعاء لنفسك وأهلك ووالديك وأولادك وإخوانك المسلمين ، فالموفق من تأسى بنبيه - صلى الله عليه وسلم- ، وأكثر من التضرع والابتهال والمناجاة ، وأظهر الافتقار والاحتياج إلى ربه ، وأدى نسكه بقلب حاضر ، ولسان ذاكر .
الرابط بين الحج والأذكار:
الحاجة إلى الذكر:
ذكر الله والإكثار منه جلاء القلوب وصقالها ، ودواؤها إذا غشيها اعتلالها .قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول:الذكر للقلب مثل الماء للسمك،فكيف يكون السمك إذا فارق الماء؟
ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال ، وأطهر ما يمر بالفم ، وتنطق به الشفتان ، ، يشعر الذاكر بالسعادة وبالطمأنينة يغمران قلبه وجوارحه {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب }
والذكر النافع هو الذي يكون مقيدا مسالك الإنسان بالأوامر والنواهي ، ومبشراً الإنسان بضعفه البشري ، ومعينا له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه .
الإكثار من الذكر: جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المطهرة ، ما يدعوا إلى الإكثار من ذكر الله عز وجل على كل حال ؛ فقال عز وجل : {يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلاً } وقال سبحانه :{ والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا ًعظيماً }. وقال جل شأنه : {واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون }. وقال تعالى : {فاذكروني أذكركم }. وقال سبحانه: {ولذكر الله أكبر }. وفِي البُخَارِيّ من حديث أبي موسى الأشعري " مثل الَّذِي يذكر ربه وَالَّذِي لَا يذكر مثل الْحَيّ وَالْمَيِّت ".
ولهذا كان التارك للذكر ، والناسي له كالميت ، لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء